الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ ٱلَّذِي جَعَلَ } - خلق - { لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً } بساطاً ومهاداً غير حزْنة، { وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } البناء، في الأصل، مصدر سمي به المبنيّ - بيتاً كان، أو قبّةً، أو خباءً.

قال بعض علماء الفلك في معنى الآية: أي: كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً. و { ٱلسَّمَآءِ } يُراد بها الجنس كالسماوات، والمعنيّ بها الكواكب السيارات - قال: فجميع السماوات أو الكواكب كالبناء المرتبط بعضه ببعض من كلّ جهة، المتماسك كأجزاء الجسم الواحد بالجاذبية التي تحفظ نظامها في مداراتها، وهو جذب الشمس لها.

{ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: السحاب { مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } النهي متفرع على مضمون ذلك الأمر، كأنَّه قيل: إذا أُمِرتم بعبادة مَنْ هذا شأنُه - من التفرّد بهذه الأفعال الجليلة - فلا تجعلوا له أنداداً شركاء في العبادة، أي: أمثالاً تعبدونهم كعبادته - جمع ندّ. وهو المثل، ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوئ - فإن قيل: كيف صالح تسميتها أنداداً وهم ما كانوا يزعمون أنها تخالفه وتناوئه، بل كانوا يجعلونها شفعاء عنده؟. أجيب: بأنَّهم لما تقرَّبوا إليها، وعظموها، وسموها آلهة - أشبهت حالهم حالَ من يعتقد أنَّها آلهة مثله قادرة على مخالفته، ومضادتّه، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكُّم. وكما تهكَّم بهم بلفظ الند شنّع عليهم، واستفظع شأنهم، بأن جعلوا أنداداً كثيرة لمن لا يصحُّ أن يكون له ندّ قط.

{ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ما بينه وبينها من التفاوت، وأنها لا تفعل مثل أفعاله، كقوله:هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُمْ مِّن شَيْءٍ } [الروم: 40]؛ أو وأنتم من أهل العلم والمعرفة - والتوبيخ فيه آكد - أي: أنتم العرافون المميزون، ثمَّ ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أنداداً - هو غاية الجهل، ونهاية سخافة العقل.

ومما ينبغي التفطُّن له - في الاعتبار بهذه الآية - ما قاله الزمخشري: من أنَّه سبحانه وتعالى قدّم من موجبات عبادته، وملزمات حقِّ الشكر له: خَلْقَهُمْ أحياء قادرين أولا - لأنه سابقة أصول النعم، ومقَدِّمتها، والسبب في التمكُّن من العبادة والشكر وغيرهما - ثمَّ خلق الأرض - التي هي مكانهم، ومستقرُّهم الذي لا بدَّ لهم منه - وهي بمنزلة عرصة المسكن، ومتقلبه، ومفترشه، ثمَّ خلق السماء - التي هي كالقبّة المضروبة، والخيمة المطنّبة - على هذا القرار؛ ثمَّ ما سوَّاه عزَّ وجلَّ من شبه عقد النكاح بين المُقِلَّة والمُظِلَّة. بإنزال الماء عليها، والإخراج به من بطنها أشباه النسل المنتج من الحيوان - من ألوان الثمار - رزقاً لبني آدم، ليكون لهم ذلك معتبراً، ومتسلقاً إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف. ونعمةً يتعرَّفونها فيقابلونها بلازم الشكر، ويتفكَّرون في خلق أنفسهم؛ وخلق ما فوقهم وتحتهم، وأن شيئاً من هذه المخلوقات كُلِّها لا يقدر على إيجاد شيء منها، فيتيقَّنوا - عند ذلك - أن لا بُدَّ لها من خالق - ليس كمثلها - حتى لا يجعلوا المخلوقات له أنداداً، وهم يعلمون أنها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر.

السابقالتالي
2