الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } حتى بدّلوا النعمة { ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } لحضورها، فألهتهم عن غائب الآخرة.

قال الحراليّ: ففي ضمنه إشعار بأنّ استحسان بهجة الدنيا كفرٌ مّا، من حيث إن نظر العقل والإيمان يُبصِّرُ طيّتها، ويشهد جيفتها، فلا يغترّ بزينتها، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحقّ؛ فأبهم تعالى المزيِّن في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان، وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى:زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [الأنعام: 108].

وفي كلامه إشعار بما يجاب عن ورود التزيين، مسنداً إلى الله تعالى تارةً وإلى غيره أخرى، في عدّة آيات من التنزيل الكريم.

وللراغب كلام بديع ينحلُّ به مثلُ هذا الإشكال وهو قوله: إنّ الفعل كما ينسب إلى المباشر له، ينسب إلى ما هو سببه ومسهلّه، وعلى هذا يصحّ أن ينسب فعلٌ واحدٌ تارةً إلى الله تعالى وتارةً إلى غيره. نحو قوله:قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ } [السجدة: 11]، وفي موضع آخر:ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ } [الزمر: 42]. فأسند الفعل في الأول إلى المباشر له، وفي الثاني إلى الآمر به؛ وهكذا، بتصوّرِ ما ذكر، تزول الشبهة فيما يرى من الأفعال منسوباً إلى الله تعالى، منفياً عن الله تعالى. نحو قوله:فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال: 17]، وقوله:مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [النساء: 79].

{ وَيَسْخَرُونَ } - أي: يهزؤون - { مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وهذا كما قال تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ... } [المطففين: 29-30] الآيات { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } وهم المؤمنون، وإنما ذكروا بعنوان التقوى لحضهم عليها وإيذاناً بترتب الحكم عليها { فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } لأنهم في علِّيين وهم في أسفل سافلين، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، كما قال تعالى:فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } [المطففين: 34-35].

ولذا قال الراغب: يحتمل قوله تعالى: { فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } وجهين:

أحدهما: أنّ حال المؤمنين في الآخرة أعلى من حال الكفار في الدنيا.

والثاني: أنّ المؤمنين في الآخرة هم في الغرفات، والكفار في الدرك الأسفل من النار. انتهى.

لطائف

قال السيلكوتي: اعلم أن قوله تعالى: { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } الخ جملة معللة لما سبق من أحوال الكفار من المنافقين وأهل الكتاب؛ يعني أن جميع ما ذكر من صفاتهم الذميمة، لأجل تهالكهم في محبة الحياة الدنيا وإعراضهم عن غيرها؛ وأورد التزيين بصيغة الماضي لكونه مفروغاً منه، مركوزاً في طبيعتهم. وعطف عليه بالفعل المضارع - أعني: { وَيَسْخَرُونَ } لإفادة الاستمرار. وعطف قوله: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } لتسلية المؤمنين.

وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يعني: ما يعطي الله هؤلاء المتقين من الثواب بغير حساب، أي: رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ولا انقطاع، كقوله سبحانه:

السابقالتالي
2