الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }

{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } أي: فرغتم من أعمال الحجّ ونفرتم: { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } أي: فأكثروا ذكر الله، وابذلوا جهدكم في الثناء عليه وشرح آلائه ونعمائه، كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم بعد قضاء مناسككم وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات..! ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل هذه الآية. وفيها إشعارٌ بتحويل القوم عما اعتادوه، وحثٌ على إفراد ذكره جلّ شأنه.

ثمّ أرشد تعالى إلى دعائه - بعد كثرة ذكره - فإنه مظنة الإجابة. وذمَّ من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض على أُخراه، فقال: { فَمِنَ ٱلنَّاسِ } أي: الذين نسوا قدر الآخرة وكانت الدنيا أكبر همهم { مَن يَقُولُ } أي: في ذكره { رَبَّنَآ آتِنَا } أي: مرغوباتنا { فِي ٱلدُّنْيَا } لا نطلب غيرها { وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أي: نصيب وحظ لأنه استوفى نصيبه في الدنيا بتخصيص دعائه به. فالجملة إخبار منه تعالى ببيان حاله في الآخرة؛ أو المعنى: ما له في الآخرة من طلب خلاق. فهو بيان لحاله في الدنيا وتصريح بما علم ضمناً من قوله: { آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا }؛ أو تأكيد لكون همّه مقصوراً على الدنيا. وقوله: { فِي ٱلآخِرَةِ } حينئذ متعلّق بـ { خَلاَقٍ } حال منه؛ وتضمن هذا الذمّ والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك.

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيؤون إلى الموقف فيقولون: اللهمّ! اجعله عامَ غيثٍ وعامَ خِصب وعام ولاد حسن.! لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً - فنزل فيهم ذلك.

وهؤلاء الذين حكى الله عنهم - أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا - قال قوم: هم مشركو العرب. وكونهم لا خلاق لهم في الآخرة ظاهر. إذْ لا نصيب لهم فيها من كرامة ونعيم وثواب. وقال قوم: هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم، ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب، حيث سألوا الله تعالى - في أعظم المواقف وأشرف المشاهد - حطامَ الدنيا وعرضَها الفاني، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة..! ومعنى كونهم لا خلاق لهم في الآخرة، أي: إلا أن يتوبوا، أوّ إلا أن يعفو الله عنه، أو لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل المولى لآخرته، والله أعلم. كذا يستفاد من الرازي.