الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

{ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ } استئناف آخر وقع جواباً عن سؤال مقدر - كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد يخطف أبصارهم، أي: يأخذها بسرعة { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ } أي: في ضوئه { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي: وقفوا، وثبتوا في مكانهم - ومنه: قامت السوق، إذا ركدت وكسدت. وقام الماء، جمد - وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين: بشدته على أصحاب الصيب، وما هم فيه من غاية التحير والجهل - بما يأتون وما يذرون - إذا صادفوا من البرق خفقةً - مع خوف أن يخطف أبصارهم - انتهزوا تلك الخفقة فرصةً، فَخَطَوْا خطوات يسيرةً، فإذا خفي، وفتر لمعانه، بقوا وافقين متقيدين عن الحركة { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ } أي: لزاد في قصيف الرعد فأصمهم، أو في ضوء البرق فأعماهم. ومفعول { شَآءَ } محذوف، لأن الجواب يدل عليه. والمعنى: ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها. ولقد تكاثر هذا الحذف في " شاء " و " أراد " ، لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله:
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته   
وقوله تعالى:لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ } [الأنبياء: 17]. { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليلٌ للشرطية، وتقريرٌ لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إزالة مشاعرهم بالطريق البرهاني.

تنبيهات

الأول: محصول التمثيلين - غِبّ وصف أربابهما بوقوعهم في ضلالتهم التي استبدلوها بالهدى - هو أنه شبه، في الأول، حيرتَهم وشدةَ الأمر عليهم بما يكابد من طَفِئتَ نارة بعد إيقادها في ظلمة الليل - وفي الثاني: شبه حالهم بحال من أخذتهم السماء في ليلة تكاثف ظلماتها - بتراكم السحب، وانتساج قطراتها، وتواتر فيها الرعود الهائلة، والبروق المخيفة، والصواعق المختلفة المهلكة، وهم في أثناء ذلك يزاولون غمرات الموت. وبذلك يعلم أن التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة، وهو الذي تقتضيه جزالة المعاني - لأنه يحصل في النفس من تشبيه الهيئات المركبة ما لا يحصل من تشبيه مفرداتها. فإنك إذا تصورت حال من طَفِئَت ناره بعد إيقادها... الخ، وحالَ من أخذتهم السماء... الخ، حصل في نفسك هيئة عجيبة توصلك إلى معرفة حال المنافقين، على وجهٍ يتقاصر عنه تشبيه المنافق - في التمثيل الأول - بالمستوقد ناراً، وإظهاره الإيمان بالإضاءة، وانقطاع انتفاعه بانتفاء النار؛ وتشبيه دين الإسلام في الثاني - بالصيب، وما يتعلق به - من شُبَهِ الكفار - بالظلمات، وما فيه - من الوعد والوعيد - بالرعد والبرق، وما يصيب الكفرة - من الإفزاع والبلايا والفتن - من جهة أهل الإسلام بالصواعق. وأيضاً في تشبيه المفردات، وطى ذكر المشبهات تكلف ظاهر.

السابقالتالي
2 3 4 5