الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } أي: من عرفة لا مِن المزدلفة.

وفي الخطاب وجهان:

أحدهما: أنّه لقريش. وذلك لما كانوا عليه من الترفّع على الناس والتعالي عليهم، وتعظّمهم عن أن يساووهم في الموقف، وقولهم: نحن أهل الله، وقطّان حرمه، فلا نخرج منه. فيقفون بجمع، وسائر الناس بعرفات.

وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمّون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات؛ فلمّا جاء الإسلام أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثمّ يقف بها، ثمّ يفيض منها، فذلك قوله تعالى: { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ }.

وثانيهما: أنّه أمرٌ لجميع الناس أن يفيضوا من حيث أفاض الناس يعني: إبراهيم عليه السلام.

قال الراغب: وسمّاه الناس لأنّ الناس يستعمل على ضربين: أحدهما: للنوع من غير اعتبار مدحٍ وذم. والثاني: المدح اعتباراً بوجود تمام الصورة المختصة بالإنسانية، وليس ذلك في هذه اللفظة، بل في اسم كلّ جنس ونوع - نحو: هذه فرس وفلان رجل، وليس هذا بفرس ولا فلان برجل - أي: ليس فيه معناه المختصّ بنوعه. وبهذا النظر نفي السمع والبصر عن الكفار؛ فعلى هذا سمّي إبراهيم الناس على سبيل المدح - وهو أن الواحد يسمّى باسم الجماعة تنبيهاً على أنه يقوم مقامهم في الحكم - وعلى هذا قول الشاعر:
وليس على الله بمستنكر   أن يجمع العالم في واحد..!
وعلى هذا قال:إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120].

فإن قيل: ما معنى كلمة { ثُمَّ } فإنها تستلزم تراخي الشيء عن نفسه، سواء عطف على مجموع الشرط والجزاء، أو الجزاء فقط..؟

فالجواب: إن كلمة { ثُمَّ } ليست للتراخي، بل مستعارة للتفاوت بين الإفاضتين - أي: الإفاضة من عرفات والإفاضة من مزدلفة - والبعد بينهما بأنّ أحدهما صواب والآخر خطأ.

قال التفتازاني: لما كان المقصود من قوله تعالى: { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ } المعنى التعريضيّ، كان معناه: ثمّ لا تفيضوا من مزدلفة. والمقصود من إيراد كلمة { ثُمَّ } التفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأنّ إحداهما صواب والأخرى خطأ.

وأجاب بعضهم: بأن { ثُمَّ } بمعنى الواو.

{ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } عما سلف من المعاصي { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.

قال ابن كثير عليه الرحمة: كثيراً ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات. ولهذا ثبت في صحيح مسلم: " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثاً " وفي الصحيحين: " أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين " وقد روى ابن جرير ههنا حديث عباس بن مرداس السلمي في استغفاره صلى الله عليه وسلم لأمته عشية عرفة.