الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ }

{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } قال الراغب: كانت العرب تتحاشى من التجارة في الحجّ، حتى إنّهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر، وحتى سمّوا مَن تولّى متجراً في الحجّ: الداج دون الحاج؛ فأباح الله ذلك؛ وعلى إباحة ذلك، دلّ قوله:وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجِّ... } [الحج: 27] إلى قوله:لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ } [الحج: 28]، وقوله:وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [المزمل: 20].

وقد روى البخاري عن ابن عباس قال: كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنّهم كرهوا ذلك حتى نزلت: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } في مواسم الحج.

ففي الآية الترخيص لمن حجّ في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق - وهو المراد بالفضل هنا - ومنه قوله تعالى:فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [الجمعة: 10]. أي: لا إثم عليكم في أن تبتغوا في مواسم الحجّ رزقاً ونفعاً وهو الربح في التجارة مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحجّ..! { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ } - أي: دفعتم منها - { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ } أي: بالتلبية، والتهليل، والتكبير، والثناء، والدعوات. والمشعر الحرام: موضع بالمزدلفة، ميمه مفتوحة وقد تكسر، وقد وَهَمَ من ظنه جبيلاً بها، سمّى به لأنه معلم للعبادة وموضع لها - كذا في " القاموس وشرحه ".

ونقل الفخر عن الواحديّ في البسيط: إنّ المشعر الحرام هو المزدلفة، سمّاها الله تعالى بذلك، لأنّ الصلاة والمقام والمبيت به، والدعاء عنده، واستقر به الفخر قال: لأن الفاء في قوله: { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ... } إلخ تدلّ على أنّ الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة. انتهى.

قال البيضاوي: يؤيد الأول ما روى جابر: أنه صلى الله عليه وسلم لما صلّى الفجر - يعني بالمزدلفة بغلس - ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام. أي: فإنه يدلّ على تغاير المزدلفة والمشعر الحرام لمكان مسيره صلى الله عليه وسلم منها إلى المشعر الحرام.! وإنما قال, يؤيد لأنه يجوز أنّ يؤول المشعر الحرام في الحديث بالجبل، إمّا بحذف المضاف، أو بتسمية الجزء باسم الكلّ - أفاده السيلكوتي.

قال ابن القيم في زاد المعاد في سياق حجته صلى الله عليه وسلم: فلما غربت الشمس واستحكم غروبها أفاض من عرفة بالسكينة من طريق المأزمين، ثم جعل يسير العنق - وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء - فإذا وجد فجوةً - وهو المتسع - نصّ سيره - أي: رفعه فوق ذلك - وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية، حتى أتى المزدلفة فتوضأ، ثم أمر المؤذن بالأذان فأذّن، ثمّ أقام فصلّى المغرب قبل حطّ الرحال وتبريك الجمال؛ فلمّا حطّوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان، ولم يصلّ بينهما شيئاً؛ فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرّع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدّاً، وذلك قبل طلوع الشمس.

السابقالتالي
2