الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } قال ابن جرير: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل. فجعل بذلك أكل مال أخيه بالباطل كالآكل مال نفسه بالباطل، ونظير ذلك قوله تعالى:وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [الحجرات: 11]وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [النساء: 29] بمعنى: لا يلمز بعضكم بعضاً ولا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنه تعالى جعل المؤمنين إخوة. وكذلك تفعل العرب. تكني عن أنفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها؛ لأن أخا الرجل عندها كنفسه؛ فتأويل الكلام: ولا يأكل بعضكم أموال بعض فيما بينكم بالباطل، وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.ا.هـ.

و { بَيْنَكُمْ } إما طرف لـ { تَأْكُلُوۤاْ } بمعنى: لا تتناولوها فيما بينكم بالأكل، أو حال من الأموال أي: لا تأكلوها كائنة بينكم ودائرة بينكم. و { بِٱلْبَاطِلِ } في موضع نصب بـ { تَأْكُلُوۤاْ } أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل - أي الوجه الذي لم يبحه الله تعالى - ويجوز أن يكون حالاً من الأموال أي: لا تأكلوها متلبسة بالباطل. أو من الفاعل في { تَأْكُلُوۤاْ } أي: لا تأكلوها مبطلين أي متلبسين بالباطل { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ } أي: تخاصموا بها - أي: بأموالهم - إلى الحكام؛ مجزوم عطفاً على النهي، ويؤيده قراءة أُبيّ: " ولا وَتُدْلُواْ " بإعادة لا الناهية والإدلاء: مأخوذ من إدلاء الدلو وهو: إرسالها في البئر للاستقاء ثم استعير لكلّ إلقاء قول أو فعل توصّلاً إلى شيء؛ ومنه يقال للمحتجّ: أدلى بحجّته، كأنه يرسلها ليصير إلى مراده. كإدلاء المستقي الدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم، إذا كان منتسباً إليه، فيطلب الميراث بتلك النسبة، فالباء صفة الإدلاء تجوزاً به عن الإلقاء كما ذكرنا، والمعنى: لا تلقوا أمرها - والحكومة فيها - إلى الحكام. أو لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة ليعينوكم على اقتطاع أموال الناس.

وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش - وهو الواسطة الذي يمشي بينهما - رواه أهل السنن، وذلك لأن وليّ الأمر إذا أكل هذا السحت - أعني الرشوة المسماة بالبرطيل، وتسمى أحياناً بالهدية وغيرها - احتاج أن يسمع الكذب من الشهادة الزور وغيرها مما فيه إعانة على الإثم والعدوان؛ ووليّ الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، هذا مقصود الولاية. وإذا كان الوالي يمكّن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضدّ المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوّك فأعان عدوّك عليك. وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد به في سبيل الله فقاتل المسلمين.

و { ٱلْحُكَّامِ }: جمع حاكم وهو منفذ الحكم بين الناس كالحَكَم، محرّكة. { لِتَأْكُلُواْ } أي: بواسطة حكمهم الفاسد، والتحاكم إليهم - { فَرِيقاً } أي: طائفة وقطعة - { مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ } بما يوجب إثماً - كشهادة الزور واليمين الفاجرة وحكمهم الفاسد - فإنه لا يفيد الحلّ والظلم.

السابقالتالي
2