الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ } - أي: فرض - { عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

واعلم أنّ مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمةً لهم، وإحساناً إليهم. وحميّةً، وجُنّةً..! فإنّ المقصود من الصيام: حبس النفس عن الشهوات، وفطمها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به ممّا فيه حياتها الأبدية..! ويكسر الجوعُ والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين..! وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها، ويسكن كلّ عضو منها وكلّ قوّة عن جماحها، وتلجم بلجامه، فهو لجام المتقين، وجنّة المجاهدين، ورياضة الأبرار والمقرّبين..! وهو لربّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإنّ الصائم لا يفعل شيئاً، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه مِنْ أجل معبوده. فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته. وهو سرٌّ بين العبد وربه، ولا يطلع عليه سواء..!

والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأمّا كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يطلع عليه بشر. وذلك حقيقة الصوم...! وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة. وحميتها عن التخليط الجالب لها الموادّ الفاسدة، التي إذا استولت عليها أفسدتها. واستفراغ الموادّ الردية المانعة له من صحتها. فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها. ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات. فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال تعالى في تتمة الآية: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " الصوم جُنّة " وأمَرَ من اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه، بالصيام. وجعله وجاء هذه الشهوة. وكان هَدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أكمل الهَدي، وأعظم تحصيلاً للمقصود، وأسهله على النفوس..! ولما كان فطم النفس عن مألوفاتها وشهواتها من أشقّ الأمور وأصعبها، تأخّر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة. لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة. وألفت أوامر القرآن. فنقلت إليه بالتدريج. وكان فرضه السنة الثانية من الهجرة. فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صام تسعة رمضانات. وفرض أوّلاً على وجه التخيير بينه وبين أن يطعم عن كلّ يومٍ مسكيناً. ثمّ نقل من ذلك التخيير إلى تحتم الصوم، وجعل الإطعام للشيخ الكبير والمرأة - إذا لم يطيقا الصيام - فإنهما يفطران ويطعمان عن كلّ يومٍ مسكيناً - كما سيأتي بيانه - وكان للصوم رتب ثلاث: أحدها: إيجابه بوصف التخيير. والثانية: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالرتبة الثالثة: وهي التي استقرّ عليها الشرع إلى يوم القيامة.

السابقالتالي
2