الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ }

{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } أي: فرض، كما استفاض في الشرع { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي: أمارته وهو المرض المخوف { إِن تَرَكَ خَيْراً } أي: مالاً ينبغي أن يوصي فيه، وقد أُطلق في القرآن الخير وأريد به المال في آيات كثيرة: منها هذه، ومنها قوله:وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ } [البقرة: 273]. ومنهاوَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [العاديات: 8]، ومنها:رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص: 24 ] إلى غيرها. وإنما سمّى المال خيراً تنبيهاً على معنى لطيف: وهو أنّ المال الذي يحسن الوصية به ما كان مجموعاً من وجهٍ محمودٍ..! كما أنّ في التسمية إشارة إلى كثرته، كما قال بعضهم: لا يقال للمال خيرٌ حتى يكون كثيراً ومن مكانٍ طيّب..! وقد روى ابن أبي حاتم عن هشام بن عروة عن أبيه: أنّ عليّاً رضي الله عنه دخل على رجل من قومه يعوده، فقال له: أوصي؟ فقال له عليّ: إنما قال الله: { إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ }. إنما تركت شيئاً يسيراً فاتركه لولدك.! وروى الحاكم عن ابن عباس: من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً! وقال طاوس: لم يترك خيراً من لم يترك ثمانين ديناراً. وقال قتادة: كان يقال: ألفاً فما فوقها.

ومنه يعلم ألا تحديد للكثرة المفهومة، وأنّ مردّها للعرف لاختلاف أحوال الزمان والمكان.

ثم ذكر نائب فاعل { كُتِبَ } بعد أن اشتدّ التشوّف إليه، فقال: { ٱلْوَصِيَّةُ } وتذكير الفعل الرافع لها: إمّا لأنه أريد بالوصية الإيصاء، ولذلك ذكّر الضمير في قوله:فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } [البقرة: 181] وإما للفصل بين الفعل ونائبه، لأنّ الكلام لما طال، كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث. وقوله: { لِلْوَالِدَيْنِ } بدأ بهما لشرفهما وعظم حقهما { وَٱلأَقْرَبِينَ } من عداهما من جميع القرابات { بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } وهو ما تتقبله الأنفس ولا تجد منه تكرّهاً.

وفي الصحيحين: " أنّ سعداً قال: يا رسول الله، إنّ لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي. أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: " لا "..! قال: فبالشطر؟ قال: " لا "..! قال: فالثلث؟ قال: " الثلث، والثلث كثيرٌ، إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس "

وفي صحيح البخاريّ " أنّ ابن عباس قال: لو أنّ الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الثلث والثلث كثير.. ".

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة: " سمعت حنظلة بن حِذْيَم بن حنيفة أنّ جدّه حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل، فشقّ ذلك على بنيه، فارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حنيفة: إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها: المطيبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا لا لا..! الصدقة خمس، وإلا فعشر، وإلا فخمس عشرة، وإلا فعشرون، وإلا فخمس وعشرون، وإلا فثلاثون، وإلا فخمس وثلاثون، فإن كثرت فأربعون " وذكر الحديث بطوله.

ثم أكد تعالى الوجوب بقوله: { حَقّاً } - وكذا قوله - { عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } فهو إلهابٌ وتهييجُ وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله عن النقير والقطمير.