الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }

{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } - في ارتفاع الأولى ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها، وفي انخفاض الثانية وكثافتها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع - { وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي: اعتقابهما وكون كل منهما خلفاً للآخر، فيجيء أحدهما ثم يذهب ويخلفه الآخر يعقبه لا يتأخر عنه لحظة كقوله تعالى:وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً } [الفرقان: 62]، أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً كما قال:يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱللَّيْلِ } [الحج: 61]، أي: يزيد من هذا في هذا ومن هذا في ذاك. { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } أي: في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى آخر لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل إقليمٍ لغيره.

قال الراغب: ولما لم يكن فرق بين أن يقال: { وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ } وبين أن يقال: والبحر الذي يجري فيه الفلك، في أن القصد الأول بالآية أن يعرف منفعة البحر وإنّ أخر في اللفظ، قدم ذكر الفلك الذي هو من صنعتنا. ولما كان سبيلنا إلى معرفتها أقرب منه إلى معرفة صنعه - قدم ذكر الفلك لينظر منها إلى آثار خلق الله تعالى.أ.هـ. { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: المزن { مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ } بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار { بَعْدَ مَوْتِهَا } باستيلاء اليبوسة عليها { وَبَثَّ فِيهَا } أي: نشر وفرق { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } من العقلاء، وغيرهم { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ } أي: تقليبها في مهابها: قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً. وفي أحوالها: حارةً وباردةً وعاصفةً ولينة، فتارة مبشرة بين يدي السحاب، وطوراً تسوقه، وآونة تجمعه، ووقتاً تفرقه، وحيناً تصرفه.

قال الثعالبي: إذا جاءت الريح بنَفَس ضعيف ورَوْح فهي النسيم، فإذا كانت شديدة فهي العاصف، فإذا حركت الأغصان تحريكاً شديداً وقلعت الأشجر فهي الزعزَعان والزعزع. فإذا جاءت بالحصباء فهي الحاصبة، فإذا هبت من الأرض نحو السماء كالعمود فهي الإعصار ويقال لها: زوبعة أيضاً، فإذا هبت بالغبرة فهي الهَبْوة، فإذا كانت باردة فهي الصرصر، فإذا كان مع بردها ندى فهي البليل، فإذا كانت حارة فهي الحَرُور والسّموم، فإذا لم تُلقح شجراً ولم تحمل مطراً فهي العقيم. ومما يذكر منها بلفظ الجمع: الأعاصير وهي التي تهيج بالغبار، واللواقح التي تلقح الأشجار، والمعصرات التي تأتي بالأمطار، والمبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.

{ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي: فلا يهوى إلى جهة السفل مع ثقله يحمله بخار الماء - كما تهوي بقية الأجرام العالية - حيث لم يكن لها ممسك محسوس، ولا يعلو، ولا ينقشع؛ مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة: فالكثيف يقتضي النزول، واللطيف يقتضي العلو، والمتوسط يقتضي الانقشاع.

السابقالتالي
2 3