الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } * { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }

وقوله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ } خطاب لمن آمن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، خُصّوا به، وإن شمل من ماثلهم، لأنهم المباشرون للدعوة والجهاد، ومكافحة الفجّار. وكل قائم بحق، وداع إليه، معرض للابتلاء بما ذكر، كله أو بعضه. والتنوين للتقليل. أي: بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطَرَف منه. وإنما قَلّل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان، وإن حل، ففوقه ما يقل إليه. وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم. وإنما أخبر به قبل الوقوع، ليوطّنوا عليه نفوسهم. ويزداد يقينهم، عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به. وليعلموا أنه شيء يسير، له عاقبة حميدة { مِّنَ ٱلْخَوْفِ } أي: خوف العدو والإرجاف به { وَٱلْجُوعِ } أي: الفقر، للشغل بالجهاد، أو فقد الزاد، إذا كنتم في سرية تجاهدون في سبيل الله. وقد كان يتفق لهم ذلك أياماً يتبلغون فيها بتمرة { وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ } أي: لانقطاعهم بالجهاد عن عمارة بساتينهم، أو لافتقاد بعضها بسبب الهجرة، وترك شيء منه في البلدة المهاجر منها { وَٱلأَنفُسِ } بقتلها شهيدة في سبيل الله، أو ذهاب أطرافها فيه { وَٱلثَّمَرَاتِ } أي: بألا تغل الحدائق كعادتها، للغيبة عنها في سبيل الله، وفقد من يتعاهدها، وخصت بالذكر لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم أخص الناس بهذا الذكر، لاسيما في وقت نزول هذه الآيات. وهو أول زمان الهجرة. فكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده كما قالوَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ } [محمد: 31]. قال الراغب: هذه الآية مشتملة على محن الدنيا كلها: أي: إذا نظر إلى عموم كل فرد مما ذكر فيها، وقطع النظر عن خصوص حال المخاطبين فيها، بما يدل عليه سابقه.

ثم بيّن تعالى ما للصابرين عنده بقوله: { وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } مكروه، اسم فاعل من أصابته شدة: لحقته. أي: كهذه البلايا { قَالُواْ إِنَّا للَّهِ } أي: ملكاً وخلقاً، فلا ينبغي أن نخاف غيره، لأنه غالب على الكل. أو نبالي بالجوع، لأن رزق العبد على سيده، فإن مُنِع وقتاً، فلا بد أن يعود إليه. وأموالنا وأنفسنا وثمراتنا ملك له، فله أن يتصرف فيها بما يشاء { وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } في الدار الآخرة. فيحصل لنا عنده ما فوّته علينا. لأنه لا يضيع أجر المحسنين. فالمصاب يهون عليه خطبه، إذا تسلّى بقوله هذا، وتصور ما خلق له، وأنه رجع إلى ربه، وتذكر نعم الله عليه، ورأى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه. قال الراغب: وليس يريد بالقول اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح وتسخط القضاء، ليس يغني شيئاً. وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله والقصد له، والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول إليه. فأمر تعالى ببشارة من اكتساب العلوم الحقيقية وتصورها وقصد هذا المقصد ووطن نفسه عليه.

ثم قال: إن قيل: ولِمَ قلتَ: إن الأمر بالصبر يقتضي العلم؟ قيل: الصبر في الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضيلة مطلوبه.