الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ }

{ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ } شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره، إِثْرَ بيان كماله في نفسه. والتوصية التقدم إلى الغير في الشيء النافع المحمود عاقبته. والضمير في { بِهَآ } إما عائد لقوله:أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة: 131] على تأويل الكلمة والجملة. ونحوه رجوع الضمير في قوله:وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً } [الزخرف: 28] إلى قوله:إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف: 26-27] وقوله: { كَلِمَةً } دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة، وإما عائد إلى الملة في قوله:وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } [البقرة: 130] وأيد الأول بكون الموصى به مطابقاً في اللفظ لأسلمت، وقرب المعطوف عليه. ورجح القاضي الثاني لكون المرجع مذكوراً صريحاً، وردّ الإضمار إلى المصرح بذكره، إذا أمكن، أولى من رده إلى المدلول والمفهوم. ولكون الملة أجمع من تلك الكلمة. والكل حسن. وقوله تعالى: { بَنِيهِ } تفيد صيغة الجمع أن لإبراهيم عليه السلام من الولد غير إسماعيل وإسحاق. وقرأت في سفر التكوين من التوراة أن إبراهيم عليه السلام تزوج، بعد وفاة سارة أم إسحاق، امرأة أخرى اسمها قَطُورةُ، فولد له: زِمْرَانَ وَيَقْشان وَمَدَانَ ومِدْيانَ ويِشْبَاقَ وشُوحاً، فعلى هذا تكون بنوه عليه السلام ثمانية { وَيَعْقُوبُ } معطوف على إبراهيم، ومفعوله محذوف تقديره: ووصى يعقوب بنيه؛ لأن يعقوب أوصى بنيه أيضاً كما أوصى إبراهيم بنيه. ودليل ذلك قوله تعالى:إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } [البقرة: 133] كما سيأتي.

وقرئ " ويعقوبَ " بالنصب عطفاً على بنيه، ومعناه: ووصى بها إبراهيم بنيه، ونافلته يعقوب. وقد ولد يعقوب في حياة جده إبراهيم، وأدرك من حياته خمس عشرة سنة، كما يستفاد من سفر التكوين من التوراة، فإن فيها أن إبراهيم عليه السلام، ولد له إسحاق وهو ابن مائة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمس وسبعين سنة، وكان لإسحاق، حين ولد له يعقوب وعيسو، ستون سنة، فاستفيد من ذلك ما ذكرناه، ولوجود يعقوب في حياة جده يفهم سر ذكره في قوله تعالى:وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [الأنعام: 84، العنكبوت: 27] وفي آية أخرى:وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [الأنبياء: 72]. { يَابَنِيَّ } أي: قال كل من إبراهيم ويعقوب، على القراءة الأولى. وعلى الثانية: قال إبراهيم: يا بني { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ } أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، وهو دين الإسلام، الذي لا دين غيره عند الله تعالى: { فَلاَ } أي: فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: لا { تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } وفي هذه الجملة إيجاز بليغ.

والمراد: الزموا الإسلام، ولا تفارقوه حتى تموتوا. وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: لا تموتوا على حالة إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا، لأنه هو المقدور، فلا يقال: صَيغة النهي موضوعة لطلب الكف عما هو مدلولها، فيكون المفهوم منه النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام، وذا ليس بمقصود، لأنه غير مقدور.

السابقالتالي
2