الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا } أي: الموضع الذي جعلت فيه بيتك وأمرتني بأن أسكنتُه من ذريتي { بَلَداً } أي: يأنس من يحل به { آمِناً } أي: من الخوف. أي: لا يرعب أهله. وقد أجاب الله دعاءه. كقوله تعالى:وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [آل عمران: 97] وقوله:أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } [العنكبوت: 67] إلى غير ذلك من الآيات. وصحت أحاديث متعددة بتحريم القتال فيه. وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح " فهو آمن من الآفات، لم يصل إليه جبار إلا قصمه الله. كما فعل بأصحاب الفيل. وقوله تعالى في سورة إبراهيم:هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } [إبراهيم: 35] بتعريف البلد مع جعله صفة لهذا، خلاف ما هنا، إمّا أن يحمل على تعدد السؤال بأن تكون الدعوة الأولى للمذكورة هنا، وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً. كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلداً آمنا؛ لأنه تعالى حكى عنه أنه قال:رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } [إبراهيم: 37] فقال، ههنا: اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً فكأنه قال: اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة. وإمّا أن يحمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر. فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين. وقد حكى ذلك هنا. واقتصر هناك على حكاية سؤال الأمن، اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال اجعل أفئدة الناس تهوي إليه، هذا خلاصة ما حققوه.

وعندي أن السؤال والمسؤول واحد، إلا أنه تفنن في الموضعين، فحذف من كلٍّ ما أثبته في الآخر احتباكاً. والأصل: رب اجعل هذا البلد بلداً آمناً. وبه تتطابق الدعوتان على أبدع وجه وأخلصه من التكلف، على ما فيه من إفادة المبالغة. أي: بلداً كاملاً في الأمن: كأنه قيل: اجعله بلداً معلوم الاتصاف بالأمن مشهوراً به كقولك: كان هذا اليوم يوماً حاراً.

وفي القاموس وشرحه التاج: البلد والبلدة علم على مكة، شرفها الله تعالى، تفخيماً لها. كالنجم للثريا. وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة خالية أو مسكونة. وفي النهاية: البلد من الأرض ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء.

{ وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ } إنما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك، لأن مكة لم يكن بها زرع ولا ثمر، فاستجاب الله تعالى له، فصارت يجبى إلهيا ثمرات كل شيء { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } بدل من { أَهْلَهُ } ، بدل البعض، يعني: ارزق المؤمنين من أهله خاصة. وإنما خصّهم بالدعاء إظهاراً لشرف الإيمان، واهتماماً بشأن أهله، ومراعاة لحسن الأدب في المسألة.

السابقالتالي
2