الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ }

{ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } لما عاب سبحانه أهل الضلال، وكان جلهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، وجميع طوائف الملل تعظمه ومنهم العرب، وبيته الذي بناه أكبر مفاخرهم وأعظم مآثرهم - ذكّر الجميع ما أنعم به عليه تذكيراً يؤدي إلى ثبوت هذا الدين بإطلاع هذا النبي الأمي، الذي لم يخالط عالماً قط، على ما لا يعلمه إلا خواص العلماء. وذكر البيت الذي بناه فجعله عماد صلاحهم، وأمر بأن يتخذ بعض ما هناك مُصلى، تعظيماً لأمره وتفخيماً لعلىّ قدره، وفي التذكير بوفائه بعد ذكر الذين وفوا بحق التلاوة، وبعد دعوة بني إسرائيل عامة إلى الوفاء بالشكر - حثٌّ على الإقتداء به، وكذا في ذكر الإسلام والتوحيد، هزٌّ لجميع من يعظمه إلى اتباعه في ذلك. ذكره البقاعي.

و { إِذِ } منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي: واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام، ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية إلى التوحيد، الوازعة عن الشرك، فيقبلوا الحق ويتركوا ما هم فيه من الباطل. ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على { ٱذْكُرُواْ } خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يُحكى، عمن ينتمون إلى ملته من إبراهيم وبنيه عليهم السلام، من الأفعال والأقوال، فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم. أي واذكروا إذ ابتلى أباكم إبراهيم، فأتم ما ابتلاه به، فما لكم أنتم لا تقتدون به فتفعلوا عند الابتلاء فعله، في إيفاء العهد والثبات على الوعد، لأجازيكم على ذلك جزاء المحسنين؟ والابتلاء، في الأصل، الاختبار، أي: تطلّب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه، غالباً، فعله أو تركه. والاختبار منا لظهور ما لم نعلم. ومن الله لإظهار ما قد علم. وعاقبه الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً، فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى.

وقوله تعالى: { بِكَلِمَاتٍ } أي: بشرائع: أوامر ونواه. وللمفسرين أقاويل فيها وفي تعدادها.

قال ابن جرير: ولا يجوز الجزم بشيء مما ذكروه أنه المراد على التعيين، إلا بحديث أو إجماع. قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. انتهى.

وعندي أن الأقرب في معنى الكلمات هو ابتلاؤه بالإسلام، فأسلم لرب العالمين، وابتلاؤه بالهجر. فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله، وابتلاؤه بالنار فصبر عليها، ثم ابتلاؤه بالختان فصبر عليه، ثم ابتلاؤه بذبح ابنه فسلم واحتسب.

كما يؤخذ ذلك من تتبع سيرته في التنزيل العزيز، وسفر التكوين من التوراة. ففيهما بيان ما ذكرناه في شأنه عليه الصلاة والسلام، من قيامه بتلك الكلمات حق القيام، وتوفيتهن أحسن الوفاء. وهذا معنى قوله تعالى: { فَأَتَمَّهُنَّ } كقوله تعالى:

السابقالتالي
2