الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

{ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق. وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له: أبدعت. ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة: مبتدع، لأنه يأتي في دين الإسلام، ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم. وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم في ولادة عيسى بلا أب. وعلم عزير بالتوراة بلا تعلم. وتقرير الحجة: إن الله سبحانه مبدع الأشياء كلها. فلا يبعد أن يوجد أحداً بلا أب، أو يعلم بلا واسطة بشر.

وقال الراغب: ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة. شرحها: إن الأب هو عنصر للابن منه تكون. والله مبدع الأشياء كلها، فلا يكون عنصراً للولد، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً.

وقوله تعالى: { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي: إذا أراد أمراً. والقضاء إنفاذ المقدَّر. والمقدر ما حد من مطلق المعلوم. قال الراغب: القضاء إتمام الشيء قولاً أو فعلاً. فمن القول آيةوَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 23].وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ } [الإسراء: 4] ومن الفعل قوله:فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12] وقضى فلان دينه، وقضى نحبه، وانقضى الأمر. ثم قال: ونبّه بقوله: { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً } على حجة خامسة وهو أن الولد يكون بنشوء وتركيب، حالاً بعد حال، وهو إذا أراد شيئاً، فقد فعل بلا مهلة. ولم يرد بـ { إِذَا } حقيقة الزمان، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان. ولم يرد أيضاً بـ: { كُنْ } حقيقة اللفظ، ولا بالفاء التعقيب الزماني. بل استعير كل ذلك لأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفعل وتمامه. وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل، والأمر لكونه منطوياً على اللفظ والفعل، والقول إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجاداً، ولفظ { كُنْ } لعموم معناه واختصار لفظه، ثم قال: { فَيَكُونُ } تنبيهاً لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده، و { كُنْ فَيَكُونُ } وإن كان مخرجها مخرج شيئين، أحدهما مبني على الآخر، فهو في الحقيقة شيء واحد. انتهى.

والذين ذهبوا إلى أن المراد بـ { كُنْ } حقيقة اللفظ، ورد عليهم سؤال مشهور. وهو: إن { كُنْ } لفظ أمر، والأمر لا يكون إلا لموجود. فبعضٌ أجاب بأنه أمر للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده. وبعضٌ قال: هو أمر لمعلوم له، وذلك في حكم الموجود وإن كان معدوم الذات. وبعضٌ قال: هو أمر للمعدوم. قال ويصح أمر المعدوم كما يصح أمر الموجود. ولهم أجوبة أكثر تكلفاً وتمحلاً.

وقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا بأنه إن كان المخاطب بـ { كُنْ } موجوداً، فتحصيل الحاصل محال، وإن كان معدوماً، فكيف يتصور خطاب المعدوم؟ فأجاب بقوله: هذه المسألة مبنية على أصلين: أحدهما: الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلاً من المخاطب، بل هو الذي يكوّن المخاطب به، ويخلقه بدون فعل من المخاطب، أو قدرة أو إرادة أو وجود له.

السابقالتالي
2 3 4