الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَـٰنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ }

{ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَـٰنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } يريد الذين قالوا: المسيح ابن الله، وعزيرٌ ابن الله، والملائكة بنات الله. فأكذب الله تعالى جميعهم في دعواهم وقولهم: إن لله ولداً. فقال: { سُبْحَـٰنَهُ } أي: تقدس وتنزه عما زعموا تنزهاً بليغاً. وكلمة { بَل } للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشيء من المخلوقات. أي: ليس الأمر كما زعموا، بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزير والمسيح والملائكة، والتنوين في { كُلٌّ } عوضٌ عن المضاف إليه. أي كل ما فيهما، كائناً ما كان من أولي العلم وغيرهم { لَّهُ قَانِتُونَ } منقادون، لا يستعصى شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشيء. ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد.

قال الراغب في تفسيره: نبه على أقوى حجة على نفي ذلك، وبيانها: هو أن لكل موجود في العالم، مخلوقاً طبيعياً، أو معمولاً صناعياً، غرضاً وكمالاً أُوجد لأجله، وإن كان قد يصلح لغيره على سبيل العرض، كاليد للبطش، والرجل للمشي، والسكين لقطع مخصوص، والمنشار للنشر، وإن كانت اليد قد تصلح للمشي في حالٍ، والرِّجل للتناول، لكن ليس على التمام. والغرض في الولد للإنسان إنما هو لأن يبقى به نوعه، وجزء منه، لما لم يجعل الله له سبيلاً إلى بقائه بشخصه، فجعل له بذراً لحفظ نوعه، ويقوى ذلك، أنه لم يجعل للشمس والقمر وسائر الأجرام السماوية بذراً واستخلافاً، لما لم يجعل لها فناء النبات والحيوان، ولما كان الله تعالى هو الباقي الدائم، بلا ابتداء ولا انتهاء، لم يكن لاتخاذه الولد لنفسه معنى. ولهذا قال:سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } [النساء: 171] أي: هو منزه عن السبب المقتضى للولد. ثم لما كان اقتناء الولد لفقر ٍ ما، وذلك لما تقدم، أن الإنسان افتقر إلى نسل يخلقه لكونه غير كامل إلى نفسه - بيّن تعالى بقوله: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أنه لا يتوهم له فقر، فيحتاج إلى اتخاذ ما هو سدٌّ لفقره، فصار في قوله: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } دلالة ثانية، ثم زاد حجة بقوله: { قَانِتُونَ } وهو أنه لما كان الولد يعتقد فيه خدمة الأب ومظاهرته كما قال:وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } [النحل: 72] بين أن كل ما في السماوات والأرض، مع كونه ملكاً له، قانت أيضاً، إما طائعاً، وإما كارهاً، وإما مسخراً. كقوله:وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [الرعد: 15]، وقوله:وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء: 44] وهذا أبلغ حجة لمن هو على المحجة.

ثم قال الراغب: إن قيل: من أين وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى؟ قيل: قد ذكر في الشرائع المتقدمة: كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر وإن الله هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وإن الأب هو السبب الأخير في وجوده وإن الأب هو معبود الابن من وجهٍ أي: مخدومه.

السابقالتالي
2