الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ } بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه، إثر بيان تضليله كلَّ من عداه على وجه العموم. ومعنى { عَلَىٰ شَيْءٍ } أيّ: أمر يعتد به من الدين { وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ } الواو للحال. والكتاب للجنس. أي: قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب. وحق من حمل التوراة أو الإنجيل، أو غيرهما من كتب الله، وآمن به، ألا يكفر بالباقي. لأن كل واحد من الكتابين مصدقٌ للثاني، شاهدٌ بصحته، وكذلك كُتب الله جميعاً متواردة على تصديق بعضها بعضاً { كَذَلِكَ } أي: مثل الذي سمعت به على ذلك المنهاج { قَالَ } الجهلة { ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } لا علم عندهم ولا كتاب، كعبدة الأصنام، قالوا لأهل كل دين { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم، حيث نظموا أنفسهم، مع علمهم، في سلك من لا يعلم { فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي: يفصل بينهم بقضائه العدل، فيحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحجإِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئِينَ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [الحج: 17]. وكما قال تعالى:قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ٱلْعَلِيمُ } [سبأ: 26].

قال الرازي: واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن كل طائفة تكفّر الأخرى، مع اتفاقهم على تلاوة القرآن، انتهى.

فهاهنا تسكب العَبَرات بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر، لا بسنَّةٍ ولا قرآنٍ، ولا لبيان من الله ولا لبرهان، بل لَمَّا غلت مراجل العصبية في الدين، تمكن الشيطان من تفريق كلمة المسلمين.
يأبي الفتى إلا اتباع الهوى   ومنهج الحق له واضحُ
مع أن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، فقال تعالى:وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } [آل عمران: 103]. وقال تعالى:إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [الأنعام: 159]. وقال تعالى:وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ } [آل عِمْرَان: 105]. وقال تعالى:وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153]. وقد امتاز أهل الحق، من هذه الأمة، بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين.