الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }

{ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } هو حكاية لفن آخر من زيغهم وضلالهم، إثر نبذهم كتاب الله والعمل بما بين أيديهم، وهو اتباعهم لما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر والكفر، وإنه إنما نال ذلك الملك بسبب معرفته السحر. وزادوا على ذلك فنسبوه إلى الردة والكفر لأسباب افتروها عليه، فبرأه الله تعالى من هذا الافتراء والاختلاق، وألصق الكفر بأولئك الشياطين الذين يضللون العقول والأفهام بتعليم السحر والشعبذة، وإسناد التأثير إلى غير الخالق، سبحانه، والصد عن سبيل الحق، وابتغائهم إياها عوجاً و { تَتْلُواْ } بمعنى تقص وتحدث، من التلاوة، وهي القراءة. أو بمعنى تكذب وتختلق، وهو قول أبي مسلم، قال: يقال تلا عليه، إذا كذب، وتلا عنه إذا صدق.

وهكذا قال الراغب في تفسيره: تلا عليه كذب، نحو روى عليه، وقال عليهوَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ٱلْكَذِبَ } [آل عمران: 75، 78]. وقال: الآية معطوفة على ما تقدم من ذكر اليهود، وهي منطوية على أمرين: ذم اليهود في تحري السحر وإيثاره، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما نسبوه إليه، وتخرصوه عليه. ا.هـ. وذلك أنهم زعموا أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام، وبنى لها المعابد، كما تراه في الفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث. فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة والقحة الكبيرة. ولما تنبه عقلاء أهل الكتاب المتأخرون لمثل هذه الفِرَى، اعترفوا بأنه ليس كل قول من الأقوال المندرجة في كتبهم المقدسة إلهامياً، بل بعضها كتب على طريقة المؤرخين، يعني بلا إلهام، كما في " إظهار الحق ". والمراد بالشياطين شياطين الإنس، وهم المتمردة العصاة الأشرار الأقوياء، الدعاة إلى الباطل.

وقوله: { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } أي: على عهد ملكه من تلك الأقاصيص المختلقة عليه. وقوله تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } تنزيه لساحته عليه السلام من الردة والشرك وعبادة الأوثان التي نسبوها إليه، وتكذيب لمن تقولها، وقال كثيرون: هذا تبرئة من السحر، وأنه تعالى كنى عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر، وأن من كان نبيّاً كان معصوماً عنه. وإنما كان كفراً لكونه يكون بالتوجه إلى الأفلاك والشياطين وعبادتها، وزعم أنها مؤثرة دونه تعالى. والمعنى الأول أصرح واوضح. وقوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } عنى بالشياطين من ذكرناهم قبلُ وهم خبثاء الإنس وأشرارهم. كما قي قوله تعالى:وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ } [البقرة: 14]، وقوله:شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } [الأنعام: 112]، والذي يعين هذا المعنى قوله: { تَتْلُواْ } لأن تلاوة شياطين الجن، لا يسمعها أحد. ومعنى { تَتْلُواْ } تقص كما تقدم.

وقوله: { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } يعيّن هذا المعنى أيضاً، إذ لا يتعلم أحدٌ السحرَ إلا من شياطين الإنس.

السابقالتالي
2 3 4 5