الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } * { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } * { ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ } * { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } * { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }

{ وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } أي: مستكبراً عن طاعته وأمره { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذٰلِكَ } أي: الذي فصلت نعوته الجليلة وخصائصه الباهرة { عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } أي: لا ما يصفه به النصارى. وهو تكذيب لهم، فيما يزعمونه على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني. حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه { قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي: ومنَ هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ وهذا كقوله تعالى:إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ } [آل عمران: 59-60] ثم أشار إلى تتمة كلام عيسى من الأمر بعبادته تعالى وحده، بقوله سبحانه: { وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي: قويم. من اتبعه رشد وهدى. ومن خالفه ضلَّ وغوى.

تنبيهات في فوائد هذه القصة

الأول: لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكيّاً طاهراً مباركا، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب. فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة؛ ولهذا ذكرهما في آل عمران، وههنا، وفي سورة الأنبياء. يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى؛ ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه. وأنه على ما يشاء قدير. و { مَرْيَمَ } هي بنت عمران. من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر تعالى ولادة أمها لها في سورة آل عمران. وأنها نذرتها محررة للعبادة. وأنه تقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً فنشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة. فكانت إحدى الناسكات المتبتلات. وكانت في كفالة زكريا ورأى لها من الكرامات ما بهره، فقد كان يجد عندها كلما دخل عليها المحراب رزقا. كما تقدم في سورة آل عمران.

الثاني: استدل بقوله تعالى:فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [مريم: 17] من قال بنبوة مريم. واستدل بقوله تعالى عنها:يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا } [مريم: 23] على جواز تمني المنون لمثل تلك الحال. وبقوله تعالى:وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } [مريم: 25] على التسبب في الرزق، وتكلف الكسب وإليه أشار القائل:
ألم تر أنَّ اللهَ قالَ لمريمٍ   وهُزِّي إليكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرطَبْ
ولو شاء أحنى الجذعَ من غير هزَّهِ   إليها. ولكن كلُّ شيء لَهُ سَبَبْ
وفي الآية أصل لما يقوله الأطباء، إن الرطب ينفع النساء. واستدل بقوله تعالى:فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [مريم: 29] بعدَفَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [مريم: 26] على أن الحالف (لا يتكلم أو لا يكلم فلانا) لا يحنث بالإشارة.

السابقالتالي
2 3