الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ قَالَ ٱنفُخُواْ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } * { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } * { قَالَ هَـٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً }

{ آتُونِي زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ } أي: ناولوني قطعه { حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ } أي: بين جانبي الجبلين { قَالَ ٱنفُخُواْ } أي: في الأكوار والحديد { حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ } أي: المنفوخ فيه { نَاراً } أي: كالنار بالإحماء { قَالَ آتُونِيۤ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } أي: نحاساً مذاباً ليلصق بالحديد، ويتدعم البناء به ويشتد { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ } أي: يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته { وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } لثخنه وصلابته { قَالَ هَـٰذَا } أي: السد { رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } على القاطنين عنده. لأمنهم من شر من سد عليهم به، ورحمة على غيرهم؛ لسد الطريق عليهم { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } بدحره وخرابه { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } بالمد أي: أرضاً مستوية، وقرئ { دَكَّآءَ } أي: مدكوكا مسوّىً بالأرض. { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } أي: كائنا لا محالة. وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين.

تنبيهات

الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق الوقائع؛ ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات، وما يستنبط من تلك الآيات. وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى. نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علماً إلى العليم الخبير.

فَمنْ فََوَائِدِهَا: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض. ورزقه من يشاء بغير حساب ملكاً ومالاً. لما له من خفي الحكم وباهر القدرة. فلا إله سواه.

ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفخار الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.

ومنها: تنشيط الهمم لرفع العوائق. وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر عذراً في الخمول والرضاء بالدون. بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء. كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار، إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.

ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة. إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال. فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره. وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفتاء. فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم. كأنه القضاء المبرم. ولم يقف في وجه عدد ولا عُدد. وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل. وأضاف كل العالم الشرقي إلى المملكة اليونانية وهو شاب.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10