الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً } * { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً }

{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } في هذه الآية وجوه من المعاني. منها أن المعنى لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله بأن يأذن لك في القول، فتكون قائلا بمشيئته، فالمشيئة على هذا بمعنى: الإذن؛ لأن وقت مشيئة الله لشيء لا تعلم إلا بإذنه فيه أي: إعلامه به. ومنها: لا تقولن لما عزمت عليه من فعل، إني فاعل ذلك غداً إلا قائلا معه إن شاء الله تبرؤا من لزوم التحكم على الله، ومن الفعل بإرادتك بل بإرادة الله، فتكون فاعلاً بمشيئته. ولئلا يلزم الكذب لو لم يشأه الله تعالى. ومنها أن المعنى لا تقولن ذلك قاطعاً بفعله وباتاً له؛ لأنهوَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } [لقمان: 34] فلا ينبغي الجزم والبت على فعل أمر مستقبل مجهول كونه. وقوله تعالى: { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } أي: أن تقول ذلك القول البات نسياناً فحينئذ ارجع إلى ربك بذكره. ولذا قال: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } وعلى هذه الوجوه كلها فَـ { لاَ تَقُولَنَّ } نهي معطوف على النهيين قبله. قال الجاحظ في كتاب (الحيوان): إنما ألزم جل وعلا عبده أن يقول: إن شاء الله، ليبقى عادة للمتألي، ولئلا يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبد والمستغني، وعلى أن يكون عبده ذاكراً لله؛ لأنه عبد مدبَّر، ومقلَّب ميسَّر , ومصرَّف مسخَّر.

وبقي وجه آخر. وهو أن المعنى لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول. والجملة خبرية قصد بها الإخبار عن سبق مشيئته تعالى لكل ما يعزم عليه ويقوله. كقوله تعالى:وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الإنسان: 30] وهذا المعنى هو الظاهر ببادئ الرأي كما قاله في (الانتصاف) وفي هذا المعنى تلويح بأنه صلوات الله عليه كان همّ بأمرٍ ما في نبأ هؤلاء الفتية، وعزم على أمر في غد المحاورة به. ولعله الاستفتاء عنهم. فلما نهي عنه أخبر بأن كل شيء كائن بمشيئته تعالى، ليدخل فيه ما كان قاله دخولاً أوليّاً. أي: ما قتله وعزمت على فعله كان بمشيئة الله، إذ شاء الله أن تقوله. فالآية بمثابة العناية به والتلطيف بالخطاب إثْرَ ما يوميء إليه النهي إليها من رقيق العتاب ولذلك اعترضت بين سابق النهي عن استفتائهم، ولاحق الأمر بذكره تعالى إذا نسي، أي: نسي ما وصّى به. وبما ذكرنا يعلم أن هذا المعنى له وجه وجيه.

فدعوى الناصر في (الانتصاف) أنه ليس هو الغرض، وأن الغرض النهي عن هذا القول إلا مقروناً بمشيئته تعالى - قصر للآية على أحد معانيها، وذهاب إلى ما هو المشهور في تأويلها، وعدم تمعن في مثل هذا المعنى الدقيق، بل وفي بقية المعاني الأخر التي اللفظ الكريم يحتملها.

السابقالتالي
2