الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }

{ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } أي: وننزل عليك من القرآن ما يستشفي به من الجهل والضلالة. ورحمة ببيان الحقائق وإقامة البراهين للمؤمنين به. دون الكافرين؛ لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله وشرائعه. فيدخلهم الجنة وينجّيهم من العذاب. فهو لهم رحمة ونعمة. ولا يزيد الظالمين، بكفرهم وشركهم، إلا خساراً. أي: إهلاكا؛ لأنهم كلما جاءهم أمر من الله أو نهي، كفروا به، فزادهم خساراً إلى ما كانوا فيه قبلُ، ورجساً إلى رجسهم.

قال الشهاب: (الشفاء) استعارة تصريحية أو تخييلية. بتشبيه الكفر بالمرض. و (مِن) بيانية. قدمت على المبين وهو (ما) اعتناء.

تنبيه

ذهب بعضهم إلى أن القرآن مما يستشفى به من الأمراض الحسّية لهذه الآية. بحمل قوله: { شِفَآءٌ } على معنيين من باب عموم المجاز. أو حمل المشترك على معنييه، وممن قرر ذلك الرازي، وعبارته: اعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية. وشفاء أيضاً من الأمراض الجسمانية. أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر، وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة. والأخلاق المذمومة. أما الاعتقادات الباطلة، فأشدها فساد الاعتقادات في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر. والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها. لا جرم كان شفاءَ من هذا النوع من المرض الروحانيّ. وأما الأخلاق المذمومة، فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة، والأعمال المحمودة. فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض. فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية.

وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض. ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء، آثاراً عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد - فَلأَنْ تكونَ قراءة هذا القرآن العظيم، المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سبباً لحصول النفع في الدين والدنيا - كان أولى. ويتأكد ما ذكرنا بحديث: " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى " وأما كونه رحمة للمؤمنين، فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مريضة بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة. والقرآن منه ما يفيد الخلاص من شبهات الضالين وتمويهات المبطلين، وهو الشفاء. ومنه ما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة، التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين. وهو الرحمة. ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة، لا جرم بدأ الله تعالى، في هذه الآية، بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة.

السابقالتالي
2