الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } * { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً }

{ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي: بمن ائتموا به من نبيّ أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين. فيقال: يا أتباع فلان! يا أهل دين كذا وكتاب كذا وقيل: بكتاب أعمالهم. فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشر، قالوا: وفيه شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال القاشانيّ: أي: نحضر كل طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه ويعرفونه، سواء كان صورة نبيّ آمنوا به، أو إمام اقتدوا به، أو دين أو كتاب، أو ما شئت. على أن تكون (الباء) بمعنى (مع). أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه، لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم، المستعلى محبتهم إياه على سائر محباتهم.

ورجح ابن كثير، رحمه الله، القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال، لقوله تعالى:وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [يس: 12] وقال تعالى:وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } الآية [الكهف: 49] وقال تعالى:وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية: 28-29] وما رجحه رحمه الله هو الصواب؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً. وأول ما ينبغي الاهتمام به في معاني الآيات، هو الرجوع إلى نظائرها.

وقوله تعالى: { فَمَنْ أُوتِيَ } أي: من هؤلاء المدعوّين { كِتَابَهُ } أي: كتاب أعماله { بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ } أي: فرحا وابتهاجا بما فيه من العمل الصالح { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي: لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل، وهو ما في شق النواة، أو ما تفتله بين أصبعيك، أو هو أدنى شيء. فإن الفتيل مثل في القلة، كقوله تعالى:وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } [مريم: 60] { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً } أي: ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الاهتداء إلى الحق، فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضل سبيلا منه في الدنيا؛ لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسباباً يمكنه الاهتداء بها. وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد. ولم يبق هناك شيء من ذلك. قيل: العمى حقيقة فيمن لا يدرك المبصرات، لفساد حاسته. مجازٌ في عمى البصيرة، وهو عدم الاهتداء إلى طريق النجاة. وقيل: هو حقيقة فيهما. وعليه جوز أن يكون { أَعْمَىٰ } الثاني أفعل تفضيل. لأنه من عمى القلب لا عمى البصر. ويجوز أن يصاغ من العيوب الباطنة أفعل تفضيل كالأحمق والأبله.

لطيفة

قال الناصر: يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى. أي: فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه. ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه، ولا ناظر في معاده، فهو في الآخرة كذلك، غير مبصر في كتابه، بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا، على اختلاف التأويلين.