الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } * { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }

{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ } أي: أمر أمرا مقطوعا به { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أي: وبأن تحسنوا بالوالدين إحسانا. قال القاشانيّ: قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة، لكونهما مناسبين للحضرة الربوبية، لتربيتهما إياك عاجزا صغيرا ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك. وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية. والرحمة والرأفة بالنسبة إليك، ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما، والله غنيّ عن ذلك. فأهم الواجبات بعد التوحيد، إذاً، إكرامهما والقيام بحقوقهما ما أمكن { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } في هذا من المبالغة في إكرام الوالدين وبرهما ما لا يخفى. و { إِمَّا } هي (إن) الشرطية زيدت عليها (ما) تأكيداً لها. و { أَحَدُهُمَا } فاعل { يَبْلُغَنَّ } ، و { كِلاَهُمَا } عطف عليه. ومعنى { عِندَكَ } هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلاّ على ولدهما، ولا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه. وذلك أشق عليه وأشد احتمالاً وصبراً. وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه، في حال الطفولة. فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال. حتى لا يقول لهما، إذا أضجره ما يستقذر منهما، أو يستِسقل من مؤنهما: (أف) فضلا عما يزيد عليه. أفاده الزمخشريّ.

وقوله: { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أي: تزجرهما عما لا يعجبك، بغلظة { وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيماً } أي: حسناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما. ومعنى قوله: { وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ } تَذَلَّلْ لهما وتواضع. وفيه استعارة مكنية وتخييلية. فشبه الذل بطائر تشبيها مضمرا، وأثبت له الجناح تخييلا، والخفض ترشيحاً. و (خفضه) ما يفعله إذا ضم أفراخه للتربية. أو استعارة تصريحية في المفرد وهو الجناح، والخفض ترشيح. و (الجناح) الجانب كما يقال: (جناحا العسكر) وخفضه مجاز. كما يقال (ليّن الجانب) و (منخفض الجانب) وإضافة الجناح إلى الذل للبيان. لأنه صفة مبيّنة أي: جناحك الذليل. وفيه مبالغة لأنه وصف بالمصدر. فكأنه جعل الجناح عين الذل. أو التركيب استعارة تمثيلية. فيكون مثلا لغاية التواضع. وسر ذكر الجناح وخفضه، تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس. و (مِن) في قوله تعالى: { مِنَ ٱلرَّحْمَةِ } ابتدائية على سبيل التعليل. أي: من فرط رحمتك لهما، وعطفك عليهما، لكبرهم وافتقارهما اليوم، إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس. وافتقارُ المرء إلى من كان مفتقراً له، غاية في الضراعة والمسكنة. فيرحمه أشد رحمة. كما قال الخفاجيّ:
يا من أتى يسأل عن فاقتي   ما حال من يسأل من سائله؟
ما ذلة السلطان إلا إذا   أصبح محتاجاً إلى عامله

السابقالتالي
2