الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } * { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } * { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً }

{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } أي: ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيراً وشرّاً، بحيث لا يفارقه أبداً. بل يلزمه لزوم الطوق في العنق، لا ينفك عنه بحال.

قال الطبريّ: المعنى: وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله، في عنقه لا يفارقه. وإنما قوله: { أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها. ا هـ. وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال؛ وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شرّ، اعتبروا أحوال الطير: وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه. وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجوّ، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة. فلما كثر ذلك منهم، سمّي الخير والشر بالطائر، تسمية للشيء باسم لازمه.

قال الطبريّ: فأعلمهم جل ثناؤه، أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه، نحساً كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيراً، أو كان سعداً يورده جنان عدن. وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد، قيل: لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين. فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك، إلى أعناقهم. وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق. كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداه. وإن كان الذي جرّ عليه لسانه أو فرجه. فكذلك. قوله: { أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } وحاصله - كما قاله الرازيّ - أن قوله: { فِي عُنُقِهِ } كناية عن اللزوم. كما يقال: (جعلت هذا في عنقك) أي: قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به. ويقال: (قلدتك كذا وطوقتك كذا) أي: صرفته إليك وألزمته إياك. ومنه (قلده السلطان كذا) أي: صارت الولاية في لزومها له، في موضع القلادة ومكان الطوق. منه يقال: (فلان يقلد فلاناً) أي: يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه. وقوله تعالى: { وَنُخْرِجُ لَهُ } أي: نظهر له { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي: البعث للجزاء على الأعمال { كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } أي: يجده مفتوحاً فيه حسناته وسيئاته. ويقال له: { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } أي: شهيداً بما عملت.

قال القاشانيّ: { كِتَاباً } هيكلاً مصوراً يصور أعماله { يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة، لا مطويّاً كما كان عند كونها فيه بالقوة. يقال له: { ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ } أي: اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمرٍ مطاع يأمره بالقراءة.

السابقالتالي
2 3