الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }

يمجد تعالى نفسه بقوله: { سُبْحَانَ } وينزه ذاته العلية عما لا يليق بجلاله، ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره. وقوله تعالى: { ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } أي: سيره منه ليلاً. و { أَسْرَىٰ } بمعنى (سَرَى) يقال: أسراه وأسرى به وسرى به. فهمزة { أَسْرَىٰ } ليست للتعدية. ولذا عدى بالباء. وفرق بعضهم بين أسرى وسرى بالمبالغة في { أَسْرَىٰ } لإفادة السرعة في السير ولذا أوثر على (سَرَى).

والإسراء سير الليل كله، كأسرى، فقوله تعالى: { لَيْلاً } للتأكيد أو للتجريد عن بعض القيود مثل: أسعفت مرامه. مع أن الإسعاف قضاء الحاجة. أو للتنبيه على أنه المقصود بالذكر. وقد استظهر الناصر في (الانتصاف) قال: ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضموماً لغيره، قوله تعالى:لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـٰهَيْنِ ٱثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } [النحل: 51] فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية وكذلك المفرد. فأريد التنبيه على أن أحد المعنيين، وهو التثنية، مراد مقصود، وكذلك أريد الإيقاظ؛ لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله: { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ وَاحِدٌ } ولو اقتصر على قوله: { إِنَّمَا هُوَ إِلـٰهٌ } لأوهم أن المهم إثبات الإلهية له. والغرض من الكلام ليس إلا إثبات الوحدانية.

وقيل: سرّ قوله: { لَيْلاً } إفادة تقليل الوقت الذي كان الإسراء والرجوع فيه. أي: أنه كان في بعض الليل أخذا من تنكيره. فقد نقل عن سيبويه أن الليل والنهار إذا عُرِّفا كانا معياراً للتعميم، فلا تقول: أرقت الليل، وأنت تريد ساعة منه، إلا أن تقصد المبالغة. بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك فلما عدل عن تعريفه هنا، علم أنه لم يقصد استغراق السرى، وهذا هو المراد من البعضية. وجود بعضهم أن يكون { أَسْرَىٰ } من (السراة) وهي الأرض الواسعة. وأصله من الواو. أسرى مثل أجبل وأتهم، أي: ذهب به سراة من الأرض، وهو غريب. وفي تخصيص الليل إعلام بفضله لأنه وقت السر والنجوى والتجلي الأسمى، ولذلك كان أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل. والمراد (بعبده) خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة، من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عزّ وجلّ وانقياده لأوامره - ما لا يخفى.

والعبد لغةً: الإنسان مطلقاً والمملوك، والعبودية: الذل والخضوع والرق والطاعة، كالعبادة والعبودة.

قال ابن القيّم في (طريق الهجرتين): أكمل الخلق أكملهم عبودية. وأعظمهم شهودا. لفَقْره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين؛ ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: " أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك ".


السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد