الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

{ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } عطف على قوله تعالى:وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [النحل: 72] منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى:وَٱللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَآءِ مَآءً } [النحل: 65] وقوله تعالى:وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ } [النحل: 70] وقوله تعالى:وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [النحل: 71] أفاده أبو السعود. و { شَيْئاً } منصوب على المصدرية. أو مفعول { تَعْلَمُونَ } والنفي منصب عليه. أي: لا تعلمون شيئاً أصلا من حق المنعم وغيره.

{ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ } أي: فتدركون به الأصوات { وَٱلأَبْصَارَ } فتحسون المرئيات { وَٱلأَفْئِدَةَ } أي: العقول { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: لتصرفوها فيما خلقت له من التوحيد والاعتبار بها والمشي على السنن الكونية. ثم نبه تعالى على آيته في خلقه الطير بقوله: { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ } أي: مذللات { فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ } أي: ما يمسكهن في الجوّ من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل، إلا هو سبحانه. { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.

قال الحجة الغزاليّ في الحكمة في خلق المخلوقات، في حكمة الطير، في هذه الآية، ما مثاله: اعلم رحمك الله؛ أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران. ولم يخلق فيه ما يثقله. وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه. فقسم لكل عضو منه ما يناسبه. فإن كان رخواً أو يابساً أو بين ذلك، انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به. فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله، وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه، واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه. أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه. وجعل جلد ساقيه غليظاً متقناً جدّاً ليستغني به عن الريش في الحر والبرد. وكان من الحكمة، خلقه على هذه الصفة؛ لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء. فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر ببلله وتلويثه. فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصاً للطيران. وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها. إذ لو طالت رجلاه وقصر عنقه لم يمكنه الرعي في البراري ولا في البحائر حتى ينكبّ على صدره. وكثيراً ما يعان بطول المنقار أيضاً مع طول العنق، ليزداد مطلبه عليه سهولة. ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه. وخلق صدره ودائره ملفوفاً على عظم كهيئة نصف دائرة، حتى يخرق في الهواء بغير كلفة، وكذلك رءوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران. وجعل لكل جنس من الطير منقاراً يناسب رعيه ويصلح لما يغتذي به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك.

السابقالتالي
2