الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً } أي: مثلاً آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح { رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ } أي: أخرس { لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ } أي: مما يقدر عليه المنطيق المفصح عما في نفسه: { وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ } أي: ثقيل على من يلي أمره، لعدم اهتمامه بإقامة مصالح نفسه { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } أي: حيث يرسله في أمر لاَ يأْتِ بنجحه وكفاية مهمه { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } أي: ومن هو بليغ منطيق ذو كفاية ورشد لينفع الناس، بحثّهم على العدل الشامل لجميع الفضائل.

{ وَهُوَ } أي: في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام { عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي: على سيرة صالحة ودين قويم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وأسهله.

قال الأزهريّ: ضرب تعالى مثلاً للصنم الذي عبدوه وهو لا يقدر على شيءٍ، فهو كَلٌّ على مولاه؛ لأنه يحمله إذا ظعن فيحوّله من مكان إلى مكان. فقال الله تعالى: هل يستوي هذا الصنم الكل، ومن يأمر بالعدل؟ استفهام معناه التوبيخ، كأنه قال لا تسووا بين الصنم الكلِّ وبين الخالق جل جلاله. انتهى.

وإليه أشار الزمخشريّ بقوله: وهذا مثل ضربه الله لنفسه، ولما يفيض على عباده ويشملهم مع آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع. انتهى.

وناقش الرازيّ في حمله على الصنم بأن الوصف بالرجل وبالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع، يمنع من حملها على الوثن، وكذا الوصف في الثاني بأنه على صراط مستقيم، يمنع من حمله على الله تعالى. انتهى.

وقد يقال في جوابه: بأن الأوصاف الأُوَل، وإن كانت ظاهرة في الإنسان (والأصل في الإطلاق ما يتبادر وهو الحقيقة) إلا أن المقام صرفها إلى الوثن؛ لأن الآيات في بيان حقارة ما يعبد من دونه تعالى، وكونه لا يصلح للألوهية بوجه ما، لما فيه من صفات النقص. وأما الوصف في قوله: { عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فكقوله تعالى:إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [هود: 56] فصح الحمل.

ثم رأيت للإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) ما يؤيد ما اعتمدناه حيث قال، في بحث أمثال القرآن، في هذين المثلين ما صورته: فالمثل الأول: يعني قوله تعالى:ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً } [النحل: 75] الآية، ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان. فالله سبحانه هو المالك لكل شيء. ينفق كيف يشاء على عبيده سراً وجهراً وليلاً ونهاراً. يمينه ملأى لا يغيضها نفقة. سحّاء الليل والنهار. والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف يجعلونها شركاء إليّ ويعبدونها من دوني، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.

وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه حسناً فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سراً وجهراً.

السابقالتالي
2 3