الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } * { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

{ وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } المراد من الوحي الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات. وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتاً تأوي إليها في ثلاثة أمكنة: الجبال. والشجر. وبيوت الناس، حيث يعرشون أي: يبنون العروش، جمع (عرش) وهو البيت الذي يستظل به كالعريش. وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة: الجبال والشجر وبيوت الناس. وأكثر بيوتها ما كان في الجبال وهو المتقدم في الآية ثم في الشجر دون ذلك ثم في الثالث أقل.

فالنحل إذاً نوعان: جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس. وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا. ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أَوَّلاً. فإذا استقر لها بيت خرجت منه، فرعت. وأكلت من الثمرات. ثم أوت إلى بيوتها. وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } أي: من كل ثمرة تشتهيها، حلوها ومرها. فالعموم عرفيّ، أو لفَظ { كُلِّ } للتكثير. أو هو عام مخصوص بالعادة. ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز؛ لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات، الأكل منها؛ لأن الأمر للتخلية والإباحة.

لطيفة

إنما أوثر { مِنَ } في قوله تعالى: { مِنَ ٱلْجِبَالِ } إلخ، على (في) دلالة على معنى التبعيض. وأن تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش، ولا في كل مكان منها. نبه عليه الزمخشريّ.

قال الناصر: ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض { مِنَ } المتعلقة باتخاذ البيوت. بإطلاق الأكل. كأنه تعالى وَكَلَ الأكل إلى شهوتها واختيارها. فلم يحجرُ عليها فيه، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض؛ لأن مصلحة الأكل حاصلة على الإطلاق باستمراء مشتهاها منه. وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع. ولهذا المعنى دخلت { ثُمَّ } لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت، والإطلاق لها في تناول الثمرات. كما تقول: راع الحلال فيما تأكله، ثم كل أي شيء شئت. فتوسط (ثم) لتفاوت الحجر والإطلاق، فسبحان اللطيف الخبير.

وقوله تعالى: { فَٱسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } أي: الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أو على حقيقتها. أي: إذا أكلت الثمار في المواضع النائية فاسلكي راجعة إلى بيوتك، سبل ربك، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها و { ذُلُلاً } جمع ذلول، حال من (السبل) أي: مذللة ذللها الله لكِ وسهلها. فهي تسلك من هذا الجوّ العظيم. والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة.

السابقالتالي
2 3 4