الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } * { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ }

{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } أي: بكفرهم ومعاصيهم التي منها ما عدد من المساويء المتقدمة { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } أي: على الأرض المدلول عليها بالناس، وبقوله تعالى: { مِن دَآبَّةٍ } أي: لأهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين { وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ } أي: وقت معين تقتضيه الحكمة. يستغفر منهم من يستغفر فيغفر له، ويصرّ من يصرّ فيزداد عذاباً { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } أي: المسمى { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ } أي: ينسون إليه { مَا يَكْرَهُونَ } أي: من البنات ومن الشركاء. وهم يأنفون من الأولى كما يكرهون مشاركة أحد لهم في مالهم. وهو تكرير لما سبق، تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى:

{ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ } أي: يجعلون لله ذلك مع دعواهم أن لهم العاقبة الحسنى عند الله، إن كان ثم معاد. كما قصه تعالى عنهم بقوله:وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50]، يعني جَمَعَ هؤلاء بين عمل السوء وتمني المحال، بأن يجازوا على ذلك حسناً.

وقد روي أنه وجد في أحد أحجار الكعبة، لما جدّدت، مكتوبا (تَعْمَلُونَ السِّيِّئَاتِ وتُجْزَوْنَ الحَسَنَاتِ. أجل. كما يجتنى من الشوك العنب) و { أَنَّ لَهُمُ } الخ بدل من (الكذب) أو بتقدير بأن لهم.

قال الشهاب: قوله تعالى: { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ } من بليغ الكلام وبديعه كقولهم: (عينها تصف السحر) أي: ساحرة. وقدها يصف الهيف، أي: هيفاء.

قال أبو العلاء المعرّي:
سَرَى بَرْقُ المَعَرَّةِ بعد وَهْنٍ   فَبَاتَ بِرَامَةٍ يَصِفُ الْكَلاَلاَ
ثم ردّ كلامهم وأثبت ضده بقوله سبحانه: { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } أي: معجّلون إليها ومقدّمون. من (الفرط) وهو السابق إلى الوِرد. يقال: أفرطته في طلب الماء إذا قدمته. أو متروكون منسيّون في النار. من (أفرطته) بمعنى تركته ونسيته، على ما حكاه الفراء. كقوله تعالى:فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا } [الأعراف: 51] وقرأ نافع: (مفرطون) بكسر الراء. اسم فاعل من (أفرط) إذا تجاوز أي: متجاوزو الحدّ في معاصي الله. وقرأ أبو جعفر بكسر الراء المشددة من (فرّط في كذا) إذا قصر. ويقرب من الآية ما قص عنهم في قوله تعالى:وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [فصلت: 50] وقال تعالى:وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً * وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 35-36].

ثم ذكر تعالى نعمته في إرسال الرسل وتكذيب أممهم، ليتأسى صلوات الله عليه بهم بقوله سبحانه:

{ تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ... }.