الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } * { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ }

لما بيّن تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين، في المحاماة عن الدين، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى، من الوعد الشديد، بهذه الآيات. واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله. فإنه إذا وافق المشركين بلفظ، لإيلامٍ قويٍ وإيذاء شديد وتهديد بقتل، فلا جناح عليه. إنما الجناح على من شرح بالكفر صدراً أي: طاب به نفساً واعتقده، استحباباً للحياة الدنيا الفانية، أي: إيثارا لها على الآخرة الباقية، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة، من غضب الله عليهم أولاً. وعذابه العظيم لهم، وهو عذاب النار ثانياً. وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثاً. ورابعاً بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها. فلم ينفتح لهم طريق الفهم. وعلى سمعهم وأبصارهم بسدّ طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب. فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور. ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع. وخامساً بكونهم هم الغافلين، بالحقيقة، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه. وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب. وجليٌّ، أن كل نقمة من هذه الخمس، على انفرادها، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات. فكيف بها كلها!.

قال الرازيّ: ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة. فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه. فلهذا قال: { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } أي: الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم، وأتلفوا في طلبها أعمارهم، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات.

تنبيهات

الأول: { مَن } في قوله تعالى: { مَن كَفَرَ } موصول مبتدأ خبره { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } وقوله: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } استثناء مقدم من حكم الغضب. وقوله: { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } رجوع إلى صدر الآية وحكمها، بأسلوب مبيّن لمن كفر، موضح له. بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير. وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن.

الثاني: استدل بالآية على أن المكره غير مكلف. وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان. واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه، وكل قول أو فعل صدر منه، إلاّ ما استثنى. أفاده السيوطيّ في (الإكليل).

الثالث: روي عن ابن عبا؛ أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذَّبه المشركون حتى يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. فوافقهم مكرهاً. ثم جاء معتذراً. قال ابن جرير: " أخذ المشركون عماراً فَعَذَّبوه. حتى قاربهم في بعض ما أرادوا. فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال له: " كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئناً بالإيمان. قال صلى الله عليه وسلم: " إن عادوا فَعُدْ " ".


السابقالتالي
2 3