الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ }

{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: المزن { مَآءً } أي: مطراً { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي: بمقدار ملئها في الصغر والكبر، أي: أخذ كل واحد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء، وهذا صغير وسع بقدره { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } أي: فحمل ورفع، من قوة الجيشان، زبدا عالياً على وجه الماء { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ } أي: من نحو الذهب والفضة والنحاس، مما يسبك في النار { ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ } أي: طلب زينة { أَوْ مَتَاعٍ } كالأواني وآلات الحرب والحرث { زَبَدٌ مِّثْلُهُ } أي: مثل زبد السيل. وهو خبثه الذي ينفيه الكيِرَ { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ } أي: مثلهما، أي: إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام. كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما، مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل. وقد بين ذلك بقوله تعالى: { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً } أي: مقذوفاً مرميّاً به، أي: فلا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث ما يوقد عليه من المعادن يذهب ولا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا ما ينتفع به من الماء والمعدن كما قال: { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } أي: يبقى فيها منتفعاً به { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } أي: يبين أمثال الحق والباطل!

تنبيهات

الأول: قدمنا أن هذه الآية مثل ضربه الله للحق وأهله. والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما. فمثل الحق وأهله بالماء الذي يُنْزِله من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع. وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وأن ذلك ماكث في الأرض باقٍ بقاءً ظاهرا. يثبت الماء في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار. وكذلك المعدن يبقى أزمنة متطاولة؛ وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزبد السيل وخبث المعدن، فإنه - وإن علا وارتفع وانتفخ - إلا أنه أخيراً يضمحلّ؛ وكذلك الشبهات والتمويهات الزائغة قد تقوى وتعظم، إلا أنها بالآخرة تبطل وتضمحل وتزول، ويبقى الحق ظاهرا لا يشوبه شيء من الشبهات، لأنه لا بقاء إلا للنافع. وما تصارع الحق والباطل، إلا وفاز الحق بقرنه..!

الثاني: قوله تعالى: { بِقَدَرِهَا } صفة { أَوْدِيَةٌ } ، أو متعلق بـ { سَالَتْ } أو { أَنَزَلَ }. وقرأ عامة القراء بفتح الدال، وقرأ زيد بن عليّ والأشهب وأبو عمرو، في رواية، بسكونها.

الثالث: قوله تعالى: { احْتَمَلَ } بمعنى حمل، فالمزيد بمعنى المجرد - كذا قيل. ويظهر لي: أن إيثاره عليه لزيادة في معناه، وقوة في مبناه!

الرابع: الأودية جمع واد. وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام، والإسناد إليها مجاز عقليّ، كما في (جري النهر).

السابقالتالي
2 3