الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ }

{ فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } أي: يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس. كما دل عليه (السين والتاء)، فإنهما يزادان في المبالغة.

قال أبو السعود: وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس، لما شاهدوه من عوذه بالله لما طلبوه، الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه، ويعاذ بالله عز وجل، ومن تسميته (ظلماً) بقوله:إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } [يوسف: 79] و { خَلَصُواْ } بمعنى اعتزلوا وانفردوا عن الناس، خالصين، لا يخالطهم سواهم. و { نَجِيّاً } حال من فاعل { خَلَصُواْ } أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين. وإنما أفردت الحال، وصاحبها جمع، إما لأن النجيّ (فعيل) بمعنى (مفاعل)، كالعشير والخليط، بمعنى المعاشر والمخالط، كقوله:وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [مريم: 52] أي: مناجياً، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً. يقال: هم خليطك وعشيرك، أي: مخالطوك ومعاشروك. وإما لأنه صفة على (فعيل) بمنزلة صديق، وبابه. فوحد لأنه بزنة المصادر، كالصهيل والوحيد والذميل. وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة، أو لتأويله بالمشتق والمصدر، ولو بحسب الأصل، يشمل القليل والكثير. وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى، ولذا قال الزمخشري: وأحسن منه - أي: من تأويل { نَجِيّاً } بذوي نجوى أو فوجا نجيّاً أي: مناجياً - أنهم تمحضوا تناجياً لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه، بجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون، وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور. انتهى.

لطيفة

ذكر القاضي عياض في (الشفا) في (بحث إعجاز القرآن): أن أعرابيّا سمع رجلاً يقرأ: { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } ، فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.

وقال الثعالبي في كتاب (الإيجاز والإعجاز) في الباب الأول: من أراد أن يعرف جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز، فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام.

ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره، في إخوة يوسف: { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } ، وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس وتقليبهم الآراء ظهراً لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث، فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة.

وقوله تعالى: { قَالَ كَبِيرُهُمْ } أي: في السن، كما هو المتبادر، وهو، فيما يروى (رؤبين)، { أَلَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ ٱللَّهِ } أي: عهداً وثيقاً في رد أخيكم، وإنما جعل منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم { وَمِن قَبْلُ } أي: قبل هذا { مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ } أي: قصرتم في شأنه. و (ما) إما مزيدة، و (من) متعلق بالفعل بعده والجملة حالية. وإما مصدرية في موضع رفع بالابتداء، و { وَمِن قَبْلُ } خبره. أو في موضع نصب عطفاً على معمول { تَعْلَمُوۤاْ }. وإما موصولة بالوجهين، أي: قدمتموه في حقه من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم، بعد ما قلتم:وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف: 11]،وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [يوسف: 12].

{ فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلأَرْضَ } أي: فلن أفارق أرض مصر { حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِيۤ أَبِيۤ } أي: في الرجوع { أَوْ يَحْكُمَ ٱللَّهُ لِي } أي: بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسبب ما. { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.

ثم أمر كبيرهم أن يخبروا أباهم بما جرى، فقال:

{ ٱرْجِعُوۤاْ إِلَىٰ أَبِيكُمْ... }.