الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

{ وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي: مثل ذلك الاصطفاء، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن، يصطفيك للنبوة والسيادة { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } أي: تعبير المنامات، وإنما سمي التعبير تأويلاً، لأنه جعل المرئيّ آيلاً إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير، وراجعاً إليه. والأحاديث اسم جمع للحديث، سميت به الرؤيا لأنها إما حديث مَلَكَ أو نفس أو شيطان. { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي: بما سيؤول إليه أمرك { وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ } وهم أهله من بنيه، وحاشيتهم، أي: يسبغ نعمته عليهم بك { كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ } بمن هو مستحق للاجتباء { حَكِيمٌ } في صنعه.

تنبيهات

الأول: قال أبو السعود: كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله: { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة. وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي. أو أراد كون هذه الخصلة سبباً لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق، فيجوز حينئذ أن يكون معرفته بطريق الفراسة، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا، لابد من توفيقه لتعبيرها، وتأويل أمثالها، وتمييز ما هو آفاقي منها، مما هو أنفسي. كيف لا، وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال، وقوة تصرفاتها فيه، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة، وأقوى وقوفاً على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر. وإن هذا الشأن البديع، لا بد أن يكون أنموذجا لظهور أمر من اتصف به، ومداراً لجريان أحكامه، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة، بها تظهر آثاره، وتجري أحكامه.

الثاني: استدل بالآية على أن (الجد) يطلق عليه اسم (الأب)، فيدل أن من نسب رجلا إلى جده وقال: (يا ابن فلان)؛ أنه لا يكون قذفاً.

الثالث: قال المهايمي: من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر، وجواز التحذير عن شخص بعينه، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره، واعتبار السبب وإن لم يؤثر؛ وأن لكل حادث تأويلاً عند الأولياء، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار، وإن كان من عالم الخيال، إذ تصور المخيلة معاني معقولة، بصور محسوسة، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها. والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير، وإلا احتاجت إليه فالأخبار عن هذه الرؤيا آية، وعما ترتب عليها آيات.

السابقالتالي
2 3 4