الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ }

{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ } أي: أجلسهما معه على سرير ملكه تكريماً لهما: { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } أي: سجد له أبوه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر، تحية وتكرمة له. وكان السجود عندهم للكبير يجري مجرى التحية عندنا.

{ وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا } أي: السجود { تَأْوِيلُ } أي: تعبير { رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } أي: التي رأيتها أيام الصبا، وهي سجود أحد عشر كوكباً والشمس والقمر { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } أي: صدقا مطابقاً للواقع في الحس { وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ } أي: فنجاني من العبودية، وجعل الملك مطيعاً لي، مفوضاَ إليّ خزائن الأرض. وفي الاقتصار على التحدث بالخروج من السجن على جلالة ملكه، وفخامة شأنه - من التواضع، وتذكر ما سلف من الضراء استدامة للشكر، ما فيه من أدب النفس الباهر. وفيه إشارة إلى النعمة في الانطلاق من الحبس، لأنه كما قال عبد الملك بن العزيز، لما كان في حبس الرشيد:
ومحلة شمل المكاره أهلهَا   وتقلّدوا مشنوءَةَ الأسماءِ
دارٌ يُهابُ بها اللئامُ وتُتَّقَى   وتَقِلُّ فيها هيبةُ الكرماءِ
ويقول عِلْجٌ ما أَرَادَ ولا ترى   حرّاً يقول برقة وحياءِ
ويرقّ عن مسّ الملاحة وجهُهُ   فيصونه بالصمت والإغضاءِ
وقال شاعر من المسجونين:
خَرَجْنَا من الدنيا وَنَحْنُ من أهلها   فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتَى
إِذَا جاءَنَا السجّانُ يوماً لحاجةٍ   عَجِبْنَا وقلنا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنيَا
ويؤثر عن يوسف عليه السلام أنه كتب على باب السجن: هذه منازل البلاء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء، وقبور الأحياء.

هذا وقد حاول كثير من الأدباء مدح السجن بسحر بيانهم. فقال عليّ بن الجهم:
قالوا حُبِسْتَ فقلت ليس بضائري   حبسي، وأيُّ مهندٍ لا يُغْمَدُ؟
أَوَ مَا رأيتَ الليثَ يألَفُ غَابَهُ   كِبْراً، وأوباشُ السّباعِ تَرَدّدٌ
والبدرُ يُدْرِكُهُ المحاقُ فَتَنْجِلي   أيّامُهُ وكأنه مُتَجَدّدُ
ولكل حالٍ مُعْقِبٌ وَلَرُبّما   أجْلَى لك المكروهُ عَمّا تحْمَدُ
والسجنُ، ما لم تَغْشَهُ لِدَنِيّةٍ   شَنْعَاء، نعم المنزل المتورد
بيت يُجَدّدُ للكريمِ كَرَامَةً   فنُزَار فيه ولا يَزُورُ وَيُحْفدُ
وأحسن ما قيل في تسلية المسجونين قول البحتريّ:
أما في رسول الله يوسفَ أسوةٌ   لمثلك محبوساً على الجَورْ والإفْكِ
أَقَامَ جميلَ الصّبْر في السجن برهةً   فآل بِهِ الصبرُ الجميلُ إلى الملْكِ
نقله الثعالبيّ في (اللطائف واليواقيت).

{ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ } أي: البادية، وقد كانوا أصحاب مواش، { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ } أي: أفسد { ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } أي: بالحسد. وأسنده إلى الشيطان لأنه بوسوسته وإلقائه، وفيه تفاد عن تثريبهم أيضاً، وإنما ذكره لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعاً. { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } أي: لطيف التدبير له، والرفق به، { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ } بوجوه المصالح { ٱلْحَكِيمُ } في أفعاله وأقضيته.