الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }

{ وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ ٱلْمَآءُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض، ولم يبق ممن كفر بالله ديّار، أمر تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضى أمر الله بإنجاء من نجا، وإهلاك من هلك.

ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئاً فشيئاً، وظهرت رؤوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل.

و (بُعْداً) مصدر منصوب بمقدر، أي: بعدوا بعداً. يقال: بعد بعداً إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك ولذلك اختص بدعاء السوء كـ (جَدْعاً) و (تَعْساً).

و (اللام) متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة بـ (قيل) أي: قيل لأجلهم هذا القول.

والتعريض لوصف الظلم للإشعار بعليّته للهلاك، ولتذكير ما سبق من قوله:وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [هو: 37].

تنبيه

هذه الآية، بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها. وقد اهتم علماء البيان لإيضاح نخب من لطائفها. ومن أوسعهم مجالاً في مضمار معارفها، الإمام السكاكيّ فقد أطال وأطاب في كتابه (المفتاح) وتلطف في التبيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه، لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه. قال عليه الرحمة في بحث (البلاغة والفصاحة)، وتعريفه الأولي بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حداً له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقسيمه الفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد. وإلى اللفظ، وهو كونه عربياً أصلياً، جارياً على قوانين اللغة، أدْوَر على ألسنة الفصحاء، أكثر في الاستعمال، ما صورته:

وإذ قد وقفت على البلاغة، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج، آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك.

ثم إن ساعدك الذوق، أدركتَ منها ما قد أدرك من تُحُدُّوا بها، وهي قوله، علت كلمته: { وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِي مَآءَكِ } إلى { ٱلظَّالِمِينَ }.

والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة، ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية.

أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إنه عز سلطانه، لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نَرُدَّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء، فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت.

السابقالتالي
2 3 4