الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }

{ فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } أي: السادة والكبراء، { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } أي: لست بملَك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا.

قال القاشاني: أي: فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق: ما نراك إلا بشراً مثلنا، لكونهم ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، الذي هو عقل المعاش، لا يرون لأحد طوراً وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طوراً بعد طور، ورتبة فوق رتبة إلى ما لا يعلمه إلا الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها.

{ وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } أي: فقراؤنا الأدنون منا. إذ المرتبة والرفعة عندهم بالمال والجاه، ليس إلا. كما قال تعالى:يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 7].

وقوله تعالى: { بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } أي: بديهة الرأي؛ لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر. قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة، والفضيلة المعنوية، لقصر تصرفه على كسب المعاش، والوقوف على حده. وأما أتباع نوح عليه السلام، فإنهم أصحاب همم بعيدة، وعقول حائمة حول القدس، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها.

تنبيه

{ بَادِيَ } قرأه أبو عمرو بالهمزة، والباقون بالياء. فأما الأول فمعناه أول الرأي، بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل، أولَ وهلة. وأما الثاني فيحتمل أن أصله ما تقدم، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفاً، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو، كعلا يعلو. والمعنى ظاهر الرأي دون باطنه. ولو تُؤُمِّل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول. وعلى كليهما. هو منصوب على الظرفية. والعامل فيه إما (نراك) أو (اتبعك).

قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجّوا نوحاً بمن اتبعه من وجهين: أحدهما: أن المتبعين أراذل، ليسوا قدوة ولا أسوة.

والثاني: أنهم مع ذلك لم يتروّوا في اتّباعه، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية. وغرض هؤلاء أن لا يقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به - انتهى.

أي: وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم: أما الأول: فلا خفاء في أنه ليس بعارٍ على الحق رذالة من اتبعه، بل أتباعه هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأدنون، ولو كانوا أغنياء. وفي الغالب، ما يتبع الحق، إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفته، كما قال تعالى:وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23]. ولما سأل هرقل، ملكُ الروم، أبا سفيان عن نعوت النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.

السابقالتالي
2