الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَٱلْعَصْرِ } * { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ }

{ وَٱلْعَصْرِ } أي: الدهر. أقسم تعالى به لانطوائه على تعاجيب الأمور القارة والمارة. ولذا قيل له: (أبو العجب)؛ ولأنه يذكر بما فيه من النعم وأضدادها. فينبه الإنسان على أنه مستعد للخسران والسعادة. وللتنويه به والتعظيم من شأنه، تعريضاً ببراءته مما يضاف إليه من الخسران والذم. كما قيل:
يَعِيبونَ الزمانَ وليسَ فِيهِ   معايبُ غير أهلٍ للزمانِ
وجوز أن يراد بالعصر: الوقت المعروف الذي تجب فيه صلاة العصر.

قال الإمام: كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم. وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضاً. فيتوهم الناس أن الوقت مذموم. فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب، كما اعتاد الناس أن يقولوا: (زمان مشؤوم) و (وقت نحس) و (دهر سوء) وما يشبه ذلك. بل هو عادّ للحسنات كما هو عادّ للسيئات. وهو ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع. فكيف يذم في ذاته، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة.

{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } أي: خسران، لخسارته رأس ماله الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية، بإيثار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر, وإضاعة الباقي في الفاني { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي: بالله وبما أنزل من الحق، إيمانا ملك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقاداتهم. كما قال: { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } قال القاشاني: أي من الفضائل والخيرات. أي اكتسبوها فربحوا زيادة النور الكماليّ على النور الاستعداديّ الذي هو رأس مالهم.

{ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ } أي: أوصى بعضهم بعضاً بما أنزل الله في كتابه من أمره، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } أي: على ما يبلو الله به عباده. أو على الحق، فإن الوصول إلى الحق سهل. وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته.

تنبيهات

الأول: قال الإمام ابن القيّم في (مفتاح دار السعادة): قال الشافعيّ رضي الله عنه: لو فكر الناس كلهم في هذه السورة، لكفتهم. وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله. إحداها: معرفة الحق. الثانية: عمله به. الثالثة: تعليمه من لا يحسنه. الرابعة: صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه. فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة. وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر، إلا الذين آمنوا. وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به، فهذه مرتبة. وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى. { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ } ، وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا، فهذه مرتبة ثالثة. { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } ، صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات.

السابقالتالي
2 3