الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } * { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ }

{ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي: أشركوا { ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ } في الآخرة { إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي: تقولون وتعملون في الدنيا. { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ } أي: يستخبرونك { أَحَقٌّ هُوَ } أي: الوعد بعذاب الخلد، أو ادعاء النبوة أو القرآن { قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي: بفائتين العذاب، فهو لاحق بكم لا محالة. من (أعجزه) الشيء إذا فاته. ويصح كونه من (أعجزه) بمعنى وجده عاجزاً. أي: ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزاً عن إدراككم، وإيقاعه بكم.

لطائف

الأولى: دل سؤالهم هذا على محض جهلهم أو عنادهم، لما ثبت من البرهان القاطع على نبوته بمعجز القرآن، وإذا صحت النبوة لزم القطع بصحة كل ما ينبئهم عنه، مما يصدعهم به.

الثانية: إنما أمر بالقسم لاستمالتهم، وللجري على ما هو المألوف في المحاورة، من تحقيق المدعي، فإن من أقسم على خبر، فقد كساه حلة الجد، وخلع عنه لباس الهزلإِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } [الطارق: 13-14].

الثالثة: لما كانت الناس طبقات، كان منهم من لا يسلم إلا ببرهان حقيقي، ومنهم من لا ينتفع به، ويسلم إلا بالأمور الإقناعية، نحو القسم، كالأعرابي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله عن رسالته وبعثه، وأنشده بالذي بعثه، ثم اقتنع بقوله صلوات الله عليه: " اللهم نعم " ، فقال: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة - رواه البخاري في أوائل كتاب العلم.

الرابعة - قال ابن كثير: هذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد: في سورة سبأوَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [سبأ: 3] وفي التغابنزَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [التغابن: 7] - انتهى.

وقد استمد ابن كثير هذا مما ذكره شيخه الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) قال: وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعاً، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع، ثم ذكر هذه الآيات، ثم قال: وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه - فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف، ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف، وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جداً، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم. انتهى.