الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }

أي: ألهمنا الطريق الهادي، وأرشدنا إليه، ووفقنا له.

قال الإمام الراغب في تفسيره: " الهداية دلالة بلطف. ومنه الهداية، وهوادي الوحش وهي متقدّماتها لكونها هادية لسائرها. وخص ما كان دلالة بفعلت نحو: هديته الطريق، وما كان من الإعطاء بأفعلت نحو: أهديت الهدية، ولما يصور العروس على وجهين: قيل فيه: هديت وأهديت. فإن قيل: كيف جعلت الهدى دلالة لطف وقد قال تعالى:فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 23]. وقال تعالى:كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الحج: 4]. قيل: إن ذلك حسب استعمالهم اللفظ على التهكم كما قال:
وخيلٍ قد دَلفتُ لها بِخيلٍ   تحيةُ بينهم ضَرْبٌ وَجيعُ
والهداية هي الإرشاد إلى الخيرات قولاً وفعلاً، وهي من الله تعالى على منازل بعضها يترتب على بعض، لا يصح حصول الثاني إلا بعد الأول، ولا الثالث إلا بعد الثاني.

فأول المنازل: إعطاؤه العبد القوى التي بها يهتدي إلى مصالحه إما تسخيراً وإما طوعاً - كالمشاعر الخمسة والقوة الفكرية، وبعض ذلك قد أعطاه الحيوانات، وبعض خصّ به الإنسان، وعلى ذلك دلّ قوله تعالى:أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه: 50]. وقوله تعالى:وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 3]. وهذه الهداية إما تسخير وإما تعليم، وإلى نحوه أشار بقوله تعالى:وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [النحل: 68]. وقوله تعالى:بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [الزلزلة: 5]. وقال في الإنسان بما أعطاه من العقل، وعرفه من الرشد:إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } [الإِنْسَاْن: 3]. وقال:وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 10]. وقال في ثمود:فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت: 17].

وثانيهما: الهداية بالدعاء وبعثه الأنبياء عليهم السلام. وإياها عني بقوله تعالى:وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [السجدة: 24]. وبقوله:وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد: 7] وهذه الهداية تنسب تارة إلى الله عز وجل، وتارة إلى النبي عليه السلام، وتارة إلى القرآن. قال الله تعالى:إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9].

وثالثها هداية يوليها صالحي عباده بما اكتسبوه من الخيرات، وهي الهداية المذكورة في قوله عز وجل:وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ } [الحج: 24]. وقوله:أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90]. وقوله:وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69]. وهذه الهداية هي المعنية بقوله:وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد: 28]. ويصح أن ننسب هذه الهداية إلى الله عز وجل فيقال: هو آثرهم بها من حيث إنه هو السبب في وصولهم إليها. ويصح أن يقال: اكتسبوها من حيث إنهم توصلوا إليها باجتهادهم. فمن قصد سلطاناً مسترفداً فأعطاه، يصح أن يقال: إن السلطان خوّله. ويصح أن يقال: فلان اكتسب بسعيه، ولانطواء ذلك على الأمرين، قال تعالى:وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد: 17]. وقال:إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [يونس: 9]. فنبه أن ذلك بجهدهم وبفضله جميعاً.

السابقالتالي
2 3 4