الرئيسية - التفاسير


* تفسير محاسن التأويل / محمد جمال الدين القاسمي (ت 1332هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

قال الإمام ابن جرير: إن الله، تعالى ذكره وتقدست أسماؤه، أدَّب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: بتعليمه تقديم ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وتقدم إليه في وصفه بها قبل جميع مهماته، وجعل - ما أدَّبه به من ذلك، وعلَّمه إياه - منه لجميع خلقه: سنّةً يستنّون بها، وسبيلاً يتبعونه عليها، فبه افتتاح أوائل منطقهم، وصدور رسائلهم وكتبهم وحاجاتهم، حتى أغنت دلالة ما ظهر، من قول القائل: بسم الله، على ما بطن من مراده الذي هو محذوف. وذلك أن الباء مقتضية فعلاً يكون لها جالباً؛ فإذا كان محذوفاً يقدَّر بما جُعلت التسمية مبدأ له. والاسم هنا بمعنى التسمية - كالكلام بمعنى التكليم، والعطاء بمعنى الإعطاء - والمعنى: أقرأ بتسمية الله وذكره، وأفتتح القراءة بتسمية الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى. و { ٱلله } علم على ذاته، تعالى وتقدس. قال ابن عباس: هو الذي يألهه كل شيء ويعبده وأصله " إلاه ". بمعنى مألوه أي معبود؛ فلما أدخلت عليه الألف واللام حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرته في الكلام؛ وبعد الإدغام فخّمت تعظيماً - هذا تحقيق اللغويين.

و { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } قال الجوهري: هما اسمان مشتقان من الرحمة، ونظيرهما في اللغة " نديم وندمان " وهما بمعنى. ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد، كما يقال: جادّ مجدّ، إلا أن { الرَّحْمٰنِ } اسم متخصص بالله لا يجوز أن يسمى به غيره، ألا ترى أنه قال:قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [الإسراء: 110] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره.ا.هـ.

وقد ناقش في كون { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } بمعنى واحد، العلامة الشيخ محمد عبده المصري في بعض مباحثه التفسيرية قائلاً: إن ذلك غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها - ثم قال: - وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول، في نفسه أو بلسانه: إن في القرآن كلمة جاءت لتأكيد غيرها ولا معنى لها في نفسها، بل ليس في القرآن حرف جاء لغير معنى مقصود. والجمهور: على أن معنى الرحمن: المنعم بجلائل النعم؛ ومعنى الرحيم: المنعم بدقائقها. وبعضهم يقول: إن الرحمن: هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم؛ والرحيم: المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين. وكل هذا تحكم باللغة مبنيّ على أن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى، ولكن الزيادة تدل على الوصف مطلقاً؛ فصيغة { الرَّحْمٰنِ } تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه، سواء كان جليلاً أو دقيقاً. وأما كون أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفاً أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفاً، فهو غير معنيّ ولا مراد، وقد قارب من قال: إن معنى { الرَّحْمٰنِ } المحسن بالإحسان العام. ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين؛ ولعل الذي حمل من قال: إن الثاني مؤكد للأول - على قوله هذا - هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة، مع عدم التفطن لما هو أحسن منه.

السابقالتالي
2