{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَٰتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ } إلى آخر قصته. أي: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى الكليم، الإمام العظيم، والرسول الكريم، إلى قوم عتاة جبابرة، وهم فرعون وملئه، من أشرافهم وكبرائهم، فأراهم من آيات اللّه العظيمة ما لم يشاهد له نظير { فَظَلَمُواْ بِهَا } بأن لم ينقادوا لحقها الذي من لم ينقد له فهو ظالم، بل استكبروا عنها { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } كيف أهلكهم اللّه، وأتبعهم الذم واللعنة في الدنيا ويوم القيامة، بئس الرفد المرفود، وهذا مجمل فصله بقوله: { وَقَالَ مُوسَىٰ } حين جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان { يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي: إني رسول من مرسل عظيم، وهو رب العالمين، الشامل للعالم العلوي والسفلي، مربي جميع خلقه بأنواع التدابير الإلهية، التي من جملتها أنه لا يتركهم سدى، بل يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وهو الذي لا يقدر أحد أن يتجرأ عليه، ويدعي أنه أرسله ولم يرسله. فإذا كان هذا شأنه، وأنا قد اختارني واصطفاني لرسالته، فحقيق عليَّ أن لا أكذب عليه، ولا أقول عليه إلا الحق، فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة، وأخذني أخذ عزيز مقتدر. فهذا موجب لأن ينقادوا له ويتبعوه، خصوصاً وقد جاءهم ببينة من اللّه واضحة على صحة ما جاء به من الحق، فوجب عليهم أن يعملوا بمقصود رسالته، ولها مقصودان عظيمان. إيمانهم به، واتباعهم له، وإرسال بني إسرائيل الشعب الذي فضله اللّه على العالمين، أولاد الأنبياء، وسلسلة يعقوب عليه السلام، الذي موسى عليه الصلاة والسلام واحد منهم. فقال له فرعون: { إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ * فَأَلْقَىٰ } موسى { عَصَاهُ } في الأرض { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي: حية ظاهرة تسعى، وهم يشاهدونها. { وَنَزَعَ يَدَهُ } من جيبه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } من غير سوء، فهاتان آيتان كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به موسى وصدقه، وأنه رسول رب العالمين، ولكن الذين لا يؤمنون لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، فلهذا { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } حين بهرهم ما رأوا من الآيات، ولم يؤمنوا، وطلبوا لها التأويلات الفاسدة: { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي: ماهر في سحره، ثم خوفوا ضعفاء الأحلام وسفهاء العقول، بأنه { يُرِيدُ } موسى بفعله هذا { أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } أي: يريد أن يجليكم عن أوطانكم { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أي: إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى، وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم، فإن ما جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه، وإلا دخل في عقول أكثر الناس. فحينئذٍ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون: { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } أي: احبسهما وأمهلهما، وابعث في المدائن أناساً يحشرون أهل المملكة ويأتون بكل سحار عليم، أي: يجيئون بالسحرة المهرة، ليقابلوا ما جاء به موسى، فقالوا: يا موسى اجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى.