الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }

لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين، وأنهم لم يقوموا به بل نقضوه، ذكر أقوالهم الشنيعة. فذكر قول النصارى، القول الذي ما قاله أحد غيرهم، بأن الله هو المسيح ابن مريم، ووجه شبهتهم أنه ولد من غير أب، فاعتقدوا فيه هذا الاعتقاد الباطل. مع أن حواء نظيره، خُلِقَت بلا أُم، وآدم أولى منه، خُلق بلا أب ولا أُم، فهلا ادعوا فيهما الإلهية كما ادعوها في المسيح؟ فدل على أن قولهم اتباع هوى من غير برهان ولا شبهة. فرد الله عليهم بأدلة عقلية واضحة فقال: { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً }. فإذا كان المذكورون لا امتناع عندهم يمنعهم لو أراد الله أن يهلكهم، ولا قدرة لهم على ذلك - دلّ على بطلان إلهية من لا يمتنع من الإهلاك، ولا في قوته شيء من الفكاك. ومن الأدلة أنَّ { للَّهِ } وحده { مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } يتصرف فيهم بحكمه الكوني والشرعي والجزائي، وهم مملوكون مدبرون، فهل يليق أن يكون المملوك العبد الفقير، إلهاً معبوداً غنياً من كل وجه؟ هذا من أعظم المحال. ولا وجه لاستغرابهم لخلق المسيح عيسى ابن مريم من غير أب، فإن الله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } إن شاء من أب وأُم، كسائر بني آدم، وإن شاء من أب بلا أُم، كحواء. وإن شاء من أم بلا أب، كعيسى. وإن شاء من غير أب ولا أُم [كآدم]. فنوع خليقته تعالى بمشيئته النافذة، التي لا يستعصي عليها شيء، ولهذا قال: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }. ومن مقالات اليهود والنصارى أن كلاً منهما ادعى دعوى باطلة، يزكون بها أنفسهم، بأن قال كل منهما: { نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ }. والابن في لغتهم هو الحبيب، ولم يريدوا البنوة الحقيقية، فإن هذا ليس من مذهبهم إلا مذهب النصارى في المسيح. قال الله رداً عليهم حيث ادعوا بلا برهان: { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم }؟ فلو كنتم أحبابه ما عذبكم [لكون الله لا يحب إلا مَن قام بمراضيه]. { بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } تجري عليكم أحكام العدل والفضل { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب، { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } أي: فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة، وأنتم من جملة المماليك ومن جملة مَنْ يرجع إلى الله في الدار الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم.