الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } * { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } * { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } * { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } * { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ }

يخبر تعالى عن أعدائه، الذين بارزوه بالكفر به وبآياته، وتكذيب رسله ومعاداتهم ومحاربتهم، وحالهم الشنيعة حين يحشرون، أي: يجمعون. { إِلَى ٱلنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } [أي]: يرد أولهم على آخرهم، ويتبع آخرهم أولهم، ويساقون إليها سوقاً عنيفاً، لا يستطيعون امتناعاً، ولا ينصرون أنفسهم ولا هم ينصرون. { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا } أي: حتى إذا وردوا على النار، وأرادوا الإنكار، أو أنكروا ما عملوه من المعاصي، { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم } عموم بعد خصوص. [ { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ] أي: شهد عليهم كل عضو من أعضائهم، فكل عضو يقول: أنا فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا. وخص هذه الأعضاء الثلاثة، لأن أكثر الذنوب إنما تقع بها أو بسببها. فإذا شهدت عليهم عاتبوها، { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ } هذا دليل على أنّ الشهادة تقع من كل عضو كما ذكرنا: { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } ونحن ندافع عنكن؟ { قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } فليس في إمكاننا الامتناع عن الشهادة حين أنطقنا الذي لا يستعصي عن مشيئته أحدٌ. { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فكما خلقكم بذواتكم وأجسامكم، خلق أيضاً صفاتكم، ومن ذلك الإنطاق. { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرة، فيجزيكم بما عملتم، ويحتمل أن المراد بذلك، الاستدلال على البعث بالخلق الأول، كما هو طريقة القرآن. { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } أي: وما كنتم تختفون عن شهادة أعضائكم عليكم، ولا تحاذرون من ذلك. { وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ } بإقدامكم على المعاصي { أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } فلذلك صدر منكم ما صدر، وهذا الظن، صار سبب هلاكهم وشقائهم ولهذا قال: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ } الظن السيِّئ حيث ظننتم به ما لا يليق بجلاله. { أَرْدَاكُمْ } أي: أهلككم، { فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } لأنفسهم وأهليهم وأديانهم بسبب الأعمال التي أوجبها لكم ظنكم القبيح بربكم، فحقت عليكم كلمة العقاب والشقاء، ووجب عليكم الخلود الدائم في العذاب، الذي لا يفتر عنهم ساعة: { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } فلا جَلَدَ عليها ولا صبر، وكل حالة قُدِّر إمكان الصبر عليها، فالنار لا يمكن الصبر عليها، وكيف الصبر على نار قد اشتد حرها، وزادت على نار الدنيا بسبعين ضعفاً، وعظم غليان حميمها، وزاد نتن صديدها، وتضاعف برد زمهريرها وعظمت سلاسلها وأغلالها، وكبرت مقامعها، وغلظ خُزَّانها، وزال ما في قلوبهم من رحمتهم، وختام ذلك سخط الجبار، وقوله لهم حين يدعونه ويستغيثون:ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108]. { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ } أي: يطلبوا أن يزال عنهم العتب ويرجعوا إلى الدنيا ليستأنفوا العمل. { فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } لأنه ذهب وقته، وعمروا ما يعمر فيه من تذكر وجاءهم النذير وانقطعت حجتهم مع أن استعتابهم كذب منهموَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام: 28].