الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىۤ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً }

هذه الصيغة من صيغ الامتناع، أي: يمتنع ويستحيل، أن يصدر من مؤمن قتل مؤمن، أي: متعمداً، وفي هذا الإخبار بشدة تحريمه، وأنه مناف للإيمان أشد منافاة، وإنما يصدر ذلك إما من كافر، أو من فاسق قد نقص إيمانه نقصاً عظيماً، ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك، فإن الإيمان الصحيح يمنع المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الأخوة الإيمانية، التي من مقتضاها محبته وموالاته، وإزالة ما يعرض لأخيه من الأذى، وأي أذى أشد من القتل؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ". فعلم أن القتل من الكفر العملي، وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله. ولما كان قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً } لفظاً عاماً لجميع الأحوال، وأنه لا يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه، استثنى تعالى قتل الخطأ فقال: { إِلاَّ خَطَئاً } فإن المخطئ الذي لا يقصد القتل غير آثم، ولا مجترئ على محارم الله، ولكنه لما كان قد فعل فعلاً شنيعاً، وصورته كافية في قبحه، وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال: { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً } سواء كان القاتل ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً، صغيراً أو كبيراً، عاقلاً أو مجنوناً، مسلماً أو كافراً، كما يفيده لفظ " مَنْ " الدالة على العموم، وهذا من أسرار الإتيان بـ " مَنْ " في هذا الموضع، فإن سياق الكلام يقتضي أن يقول: فإن قتله، ولكن هذا لفظ لا يشمل ما تشمله " مَنْ ". وسواء كان المقتول ذكراً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، كما يفيده التنكير في سياق الشرط، فإن على القاتل { تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } كفارة لذلك، تكون في ماله، ويشمل ذلك الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والصحيح والمعيب، في قول بعض العلماء. ولكن الحكمة تقتضي أن لا يجزئ عتق المعيب في الكفارة لأن المقصود بالعتق نفع العتيق، وملكه منافع نفسه، فإذا كان يضيع بعتقه، وبقاؤه في الرق أنفع له، فإنه لا يجزئ عتقه، مع أن في قوله: { تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ما يدل على ذلك فإن التحرير: تخليص مَنْ استحقت منافعه لغيره أن تكون له، فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير. فتأمل ذلك، فإنه واضح. وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد. { مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ } جبراً لقلوبهم، والمراد بأهله هنا هم ورثته، فإن الورثة يرثون ما ترك الميت، فالدية داخلة فيما ترك، وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في كتب الفقه. وقوله: { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } أي: يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية، فإنها تسقط، وفي ذلك حث لهم على العفو، لأن الله سماها صدقة، والصدقة مطلوبة في كل وقت.

السابقالتالي
2