أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثاً، أي: أوثاناً وأصناماً، مسميات بأسماء الإناث، كـ " العزى " و " مناة " ونحوهما، ومن المعلوم أن الاسم دال على المسمى. فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة، دلّ ذلك على نقص المسميات بتلك الأسماء، وفقدها لصفات الكمال، كما أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه، أنها لا تخلق ولا ترزق، ولا تدفع عن عابديها، بل ولا عن نفسها نفعاً ولا ضراً، ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء، وليس لها أسماع ولا أبصار ولا أفئدة، فكيف يُعبد مَنْ هذا وصفه، ويُترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال، والمجد، والجلال، والعز، والجمال، والرحمة، والبر، والإحسان، والانفراد بالخلق والتدبير، والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟!! هل هذا إلاّ من أقبح القبيح، الدال على نقص صاحبه، وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما يتصوره متصور، أو يصفه واصف؟!! ومع ذلك فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الأوثان الناقصة. وبالحقيقة ما عبدوا غير الشيطان، الذي هو عدوهم، الذي يريد إهلاكهم، ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه، الذي هو في غاية البعد من الله، لعنه الله وأبعده عن رحمته، فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله.{ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [فاطر: 6] ولهذا أخبر الله عن سعيه في إغواء العباد، وتزيين الشر لهم والفساد، وأنه قال لربه مقسما: { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي: مقدراً. علم اللعين أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله، وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان، وإنما سلطانه على مَنْ تولاه، وآثر طاعته على طاعة مولاه. وأقسم في موضع آخر ليغوينهم{ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [الحجر: 39-40]. فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به، أخبر الله تعالى بوقوعه بقوله:{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [سبأ: 20]. وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه يتخذهم، ذكر ما يريد بهم، وما يقصده لهم بقوله: { وَلأُضِلَّنَّهُمْ } أي: عن الصراط المستقيم، ضلالاً في العلم، وضلالاً في العمل. { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } أي: مع الإضلال، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون. وهذا هو الغرور بعينه، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال. وهذا زيادة شر إلى شرهم، حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة، وحسبوا أنها موجبة للجنة، واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم، فإنهم كما حكى الله عنهم،{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [البقرة: 111]{ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [الأنعام: 108]{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }