الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } * { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ } * { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ }

أي: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } على وجه التكذيب والاستهزاء والاستبعاد، وذكر وجه الاستبعاد. أي: قال بعضهم لبعض: { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يعنون بذلك الرجل، رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأنه رجل أتى بما يستغرب منه، حتى صار - بزعمهم - فرجة يتفرجون عليه، وأعجوبة يسخرون منه، وأنه كيف يقول " إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ " بعدما مزقكم البلى، وتفرقت أوصالكم، واضمحلت أعضاؤكم؟!. فهذا الرجل الذي يأتي بذلك، هل { أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } فتجرأ عليه وقال ما قال، { أَم بِهِ جِنَّةٌ }؟ فلا يستغرب منه، فإن الجنون فنون، وكل هذا منهم، على وجه العناد والظلم، ولقد علموا أنه أصدق خلق اللّه وأعقلهم، ومن علمهم، أنهم أبدوا وأعادوا في معاداتهم، وبذلوا أنفسهم وأموالهم، في صد الناس عنه، فلو كان كاذباً مجنوناً لم ينبغ لكم - يا أهل العقول غير الزاكية - أن تصغوا لما قال، ولا أن تحتفلوا بدعوته، فإن المجنون، لا ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره، أو يبلغ قوله منه كل مبلغ. ولولا عنادكم وظلمكم، لبادرتم لإجابته، ولبيتم دعوته، ولكن " مَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ " ولهذا قال تعالى: { بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } ومنهم الذين قالوا تلك المقالة، { فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ } أي: في الشقاء العظيم، والضلال البعيد، الذي ليس بقريب من الصواب، وأي شقاء وضلال، أبلغ من إنكارهم لقدرة اللّه على البعث، وتكذيبهم لرسوله الذي جاء به، واستهزائهم به، وجزمهم بأن ما جاؤوا به هو الحق، فرأوا الحق باطلاً، والباطل والضلال حقاً وهدى. ثم نبههم على الدليل العقلي، الدال على عدم استبعاد البعث، الذي استبعدوه، وأنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض فرأوا من قدرة اللّه فيهما ما يبهر العقول، ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول، وأن خلقهما وعظمتهما وما فيهما من المخلوقات أعظم من إعادة الناس - بعد موتهم - من قبورهم، فما الحامل لهم على ذلك التكذيب، مع التصديق بما هو أكبر منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الآن، ما شاهدوه، فلذلك كذبوا به. قال اللّه: { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } أي: من العذاب، لأن الأرض والسماء تحت تدبيرنا، فإن أمرناهما لم يستعصيا، فاحذروا إصراركم على تكذيبكم، فنعاقبكم أشد العقوبة. { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: خلق السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات { لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ }. فكلما كان العبد أعظم إنابة إلى اللّه، كان انتفاعه بالآيات أعظم، لأن المنيب مقبل إلى ربه، قد توجهت إراداته وهماته لربه، ورجع إليه في كل أمر من أموره، فصار قريباً من ربه، ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته، فيكون نظره للمخلوقات نظر فكرةٍ وعبرة، لا نظر غفلة غير نافعة.