الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } * { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }

لما اجتمع نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغيرة، وطلبن منه النفقة والكسوة، طلبن منه أمراً لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلن في طلبهن متفقات، في مرادهن متعنتات، فشَقَّ ذلك على الرسول، حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهراً. فأراد اللّه أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته، ويُذْهِبَ عنهن كل أمر ينقص أجرهن، فأمر رسوله أن يخيرهن فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } أي: ليس لكن في غيرها مطلب، وصرتن ترضين لوجودها، وتغضبن لفقدها، فليس لي فيكن أرب وحاجة، وأنتن بهذه الحال. { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } شيئاً مما عندي من الدنيا { وَأُسَرِّحْكُنَّ } أي: أفارقكن { سَرَاحاً جَمِيلاً } من دون مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر، وانشراح بال، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي. { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } أي: هذه الأشياء مرادكن، وغاية مقصودكن، وإذا حصل لَكُنَّ اللّه ورسوله والجنة، لم تبالين بسعة الدنيا وضيقها، ويسرها وعسرها، وقنعتن من رسول اللّه بما تيسر، ولم تطلبن منه ما يشق عليه، { فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } رتب الأجر على وصفهن بالإحسان، لأنه السبب الموجب لذلك، لا لكونهن زوجات للرسول، فإن مجرد ذلك لا يكفي، بل لا يفيد شيئاً مع عدم الإحسان، فخيَّرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فاخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة كلهن، ولم يتخلف منهن واحدة، رضي اللّه عنهن. وفي هذا التخيير فوائد عديدة: منها: الاعتناء برسوله وغيرته عليه، أن يكون بحالة يشق عليه كثرة مطالب زوجاته الدنيوية. ومنها: سلامته صلى اللّه عليه وسلم بهذا التخيير من تبعة حقوق الزوجات، وأنه يبقى في حرية نفسه، إن شاء أعطى، وإن شاء منعمَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } [الأحزاب: 38]. ومنها: تنزيهه عما لو كان فيهن من تؤثر الدنيا على اللّه ورسوله والدار الآخرة عنها، وعن مقارنتها. ومنها: سلامة زوجاته رضي اللّه عنهن عن الإثم والتعرض لسخط اللّه ورسوله. فحسم اللّه بهذا التخيير عنهن التسخط على الرسول، الموجب لسخطه، المسخط لربه، الموجب لعقابه. ومنها: إظهار رفعتهن وعلو درجتهن، وبيان علو هممهن، أن كان اللّه ورسوله والدار الآخرة، مرادهن ومقصودهن، دون الدنيا وحطامها. ومنها: استعدادهن بهذا الاختيار، للأمر الخيار، للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة. ومنها: ظهور المناسبة بينه وبينهن، فإنه أكمل الخلق، وأراد اللّه أن تكون نساؤه كاملات مكملات، طيبات مطيباتٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ } [النور: 26]. ومنها: أن هذا التخيير داع، وموجب للقناعة التي يطمئن لها القلب، وينشرح لها الصدر، ويزول عنهن جشع الحرص، وعدم الرضا الموجب لقلق القلب واضطرابه، وهمه وغمه. ومنها: أن يكون اختيارهن هذا، سبباً لزيادة أجرهن ومضاعفته، وأن يَكُنَّ بمرتبة ليس فيها أحد من النساء، ولهذا قال: { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ... }.