الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ الۤـمۤ } * { غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } * { فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } * { فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } * { بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ } * { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } * { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }

كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الأرض، وكان يكون بينهما من الحروب والقتال، ما يكون بين الدول المتوازنة. وكانت الفرس مشركين يعبدون النار، وكانت الروم أهل كتاب ينتسبون إلى التوراة والإنجيل، وهم أقرب إلى المسلمين من الفرس، فكان المؤمنون يحبون غلبتهم وظهورهم على الفرس، وكان المشركون - لاشتراكهم والفرس في الشرك - يحبون ظهور الفرس على الروم. فظهر الفرس على الروم، فغلبوهم غلباً لم يحط بملكهم، بل بأدنى أرضهم، ففرح بذلك مشركو مكة، وحزن المسلمون، فأخبرهم اللّه ووعدهم أن الروم ستغلب الفرس. { فِي بِضْعِ سِنِينَ } تسع، أو ثمان، ونحو ذلك، مما لا يزيد على العشر، ولا ينقص عن الثلاث، وأن غلبة الفرس للروم، ثم غلبة الروم للفرس، كل ذلك بمشيئته وقدره، ولهذا قال: { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } فليس الغلبة والنصر لمجرد وجود الأسباب، وإنما هي لا بد أن يقترن بها القضاء والقدر. { وَيَوْمَئِذٍ } أي: يوم يغلب الروم الفرس ويقهرونهم { يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ } أي: يفرحون بانتصارهم على الفرس، وإن كان الجميع كفاراً، ولكن بعض الشر أهون من بعض، ويحزن يومئذ المشركون. { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ } الذي له العزة التي قهر بها الخلائق أجمعين، يؤتي الملك مَنْ يشاء، وينزع الملك ممَّن يشاء، ويعز مَنْ يشاء ويذل مَنْ يشاء. { ٱلرَّحِيمُ } بعباده المؤمنين، حيث قيّض لهم من الأسباب التي تسعدهم وتنصرهم، ما لا يدخل في الحساب. { وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } فتيقنوا ذلك، واجزموا به، واعلموا أنه لا بد من وقوعه. فلما نزلت هذه الآيات، التي فيها هذا الوعد، صدق بها المسلمون، وكفر بها المشركون، حتى تراهن بعض المسلمين وبعض المشركين على مدة سنين عينوها، فلما جاء الأجل، الذي ضربه اللّه، انتصر الروم على الفرس، وأجلوهم من بلادهم التي أخذوها منهم، وتحقق وعد اللّه. وهذا من الأمور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها، ووجدت في زمان من أخبرهم اللّه بها، من المسلمين والمشركين. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أن ما وعد اللّه به حق، فلذلك يوجد فريق منهم يكذبون بوعد الله، ويكذبون آياته، وهؤلاء الذين لا يعلمون أي: لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقبها، وإنما { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } فينظرون إلى الأسباب، ويجزمون بوقوع الأمر الذي في رأيهم انعقدت أسباب وجوده، ويتيقنون عدم الأمر الذي لم يشاهدوا له من الأسباب المقتضية لوجوده شيئاً، فهم واقفون مع الأسباب، غير ناظرين إلى مسببها، المتصرف فيها. { وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } قد توجهت قلوبهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتها وحطامها، فعملت لها وسعت، وأقبلت بها وأدبرت، وغفلت عن الآخرة، فلا الجنة تشتاق إليها، ولا النار تخافها وتخشاها، ولا المقام بين يدي اللّه ولقائه يروعها ويزعجها، وهذا علامة الشقاء، وعنوان الغفلة عن الآخرة.

السابقالتالي
2