الرئيسية - التفاسير


* تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (ت 1376هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } * { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }

يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال، وإقامة دينه، فقال: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } أي: انصبه ووجهه إلى الدين الذي هو الإسلام، والإيمان، والإحسان، بأن تتوجه بقلبك، وقصدك، وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج ونحوها. وشرائعه الباطنة، كالمحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة، بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك. وخص اللّه إقامة الوجه، لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب، ويترتب على الأمرين سَعْيُ البدن، ولهذا قال: { حَنِيفاً } أي: مقبلاً على اللّه في ذلك، معرضاً عمّا سواه. وهذا الأمر الذي أمرناك به، هو { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } ووضع في عقولهم حسنها، واستقباح غيرها، فإن جميع أحكام الشرع، الظاهرة والباطنة، قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم، الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق، وإيثار الحق، وهذا حقيقة الفطرة. ومن خرج عن هذا الأصل، فلعارض عرض لفطرته أفسدها، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ". { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } أي: لا أحد يبدل خلق اللّه، فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه اللّه، { ذَلِكَ } الذي أمرنا به { ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } أي: الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه، وإلى كرامته، فإن مَنْ أقام وجهه للدين حنيفاً، فإنه سالك الصراط المستقيم، في جميع شرائعه وطرقه، { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } فلا يتعرفون الدين القيِّم وإن عرفوه لم يسلكوه. { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ } وهذا تفسير لإقامة الوجه للدين، فإن الإنابة إنابة القلب وانجذاب دواعيه لمراضي اللّه تعالى. ويلزم من ذلك، حمل البدن بمقتضى ما في القلب، فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة، ولا يتم ذلك إلا بترك المعاصي الظاهرة والباطنة، فلذلك قال: { وَٱتَّقُوهُ } فهذا يشمل فعل المأمورات وترك المنهيات. وخص من المأمورات الصلاة، لكونها تدعو إلى الإنابة والتقوى، لقوله تعالى:وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت: 45] فهذا إعانتها على التقوى. ثم قال:وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت: 45] فهذا حثها على الإنابة. وخص من المنهيات أصلها، والذي لا يقبل معه عمل، وهو الشرك، فقال: { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } لكون الشرك مضاداً للإنابة، التي روحها الإخلاص من كل وجه. ثم ذكر حالة المشركين مهجناً لها ومقبحاً، فقال: { مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } مع أن الدين واحد، وهو إخلاص العبادة للّه وحده، وهؤلاء المشركون فرقوه، منهم مَنْ يعبد الأوثان والأصنام، ومنهم مَنْ يعبد الشمس والقمر، ومنهم مَنْ يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم يهود، ومنهم نصارى. ولهذا قال: { وَكَانُواْ شِيَعاً } أي: كل فرقة من فرق الشرك تألفت وتعصبت، على نصر ما معها من الباطل، ومنابذة غيرهم ومحاربتهم.

السابقالتالي
2